أحياناً يصبح التذكر عملاً، بل واجباً نضالياً، وفي تلك الحالة يصح، بل يتعين الحديث والإصرار على إرادة التذكر، ويصبح التأريخ الحقيقي وتناول الأحداث ومن ثم الحقب، بالتحليل والنقد ونقد النقد، شروطاً وجودية لا غنى عنها لأي رؤية مستقبلية ذات معنى، تريد أو تهدف أو حتى تدعي أنها تريد إخراجنا من حقبة العبث واللاجدوى والضياع العربي المديدة، ذلك النفق الذي لا تبدو له نهايةٌ في الأفق؛ بالطبع هذا إذا ما اقترن ذلك التنظير بعملٍ تنظيمي ملتزم.
لا بد لمن يريدون التغيير ويأملون في واقعٍ أفضل، أن يبدأوا مجتمعهم الجديد ويدشنوه من أسفل، على مستوى القاعدة، وإلا فقد كل تنظيرٍ معناه، ففي مقابل التاريخ الرسمي المزور، لا بد من تاريخٍ حقيقي نكتبه نحن المعاصرون، وأمام الفرى والأكاذيب لا بد من التصدي والتأكيد على الحقوق: كأن نؤكد مثلاً على حقوق العاملين والمكافحين والمضحين أو مصرية أراضٍ وقعت داخل الإقليم المصري منذ ما قبل التاريخ وبذلت في سبيلها دماءٌ مصرية.
مقدمةٌ لا بد منها، لأن أي كتابةٍ لا تلتزم هذا الخط لا معنى لها بالضرورة ومحكومٌ عليها باللاجدوى في نهاية المطاف. أما الغرض الاساسي الآن من هذا المقال فهو جذب من أستطيع بكلامي هذا، للنظر بعيداً عما تريدنا الأنظمة أن نحملق فيه دون غيره الآن: قطر والإرهاب.
لقد أصبحا حديث الساعة وموضوعها الساخن دون منافسةٍ تذكر، يقف وراءها محور النفط الخليجي بزعامة المملكة السعودية، وفي ذيله مصر السيسي بعدائها المعروف لقطر. طبولٌ للحرب تقرع وكلمة السر الحقيقية إيران التي باتت تطوق المملكة السعودية ودول النفط في العراق وسوريا وأخيراً اليمن. أهم ما أرغب بشدة في لفت النظر إليه هو طبيعة تهمة الإرهاب بصفةٍ عامة وتهافت دعواها أيضاً.
أجل يوجد إرهاب وجنودٌ يموتون، لكن كل دول هذه المنطقة، وتحديداً اللاعبين الكبار، دعموا فصيلاً إرهابياً، إن لم يكن أكثر في العقود الستة الأخيرة، وإن المتابع لن يلاقي مشقةً على الإطلاق في الوصول إلى نتيجةٍ مفادها أن تهمة «الإرهاب» (لا فعل الإرهاب نفسه فذلك قضيةٌ أخرى) تبدو معلقةً في الهواء دائماً، سيفاً مشهراً مسلطاً متوعداً لكل من يعارض أو يناوئ هذا النظام أو ذاك، ومن ثم يتم إلصاق هذه التهمة وذلك الوصف به، متى ما دعت الحاجة واقتضى الظرف، خاصةً أن الغرب والشرق ممثلاً في روسيا قد عانيا، أو لنقل طالهما، إرهابٌ في مرحلةٍ ما. ليس الإرهاب سوى قميص عثمان الذي به يتاجر، موجود وحقيقي مضمخٌ بالدماء، لكن الفرق في النوايا والأغراض، وفي حالنا تلك لا بد من التفتيش فيها.
الدور الآن على قطر وجماعة الإخوان المسلمين و»داعش». لا يريدنا محور النفط أن نرى غيرهم. أود أن أؤكد أنني هنا لست بصدد معالجة أو مقاربة التهمة أو تقييم أيٍ من تلك الأطرف، إلا أنني ألفت النظر إلى خلفية الصورة: إن دول ذلك المحور وعلى رأسها مصر، تدعم تنظيماتٍ إرهابية وتحتكر وسائل العنف واصفةً إياها بالـ»مشروعة» وتمارس إرهاباً منظماً ممنهجاً ضد معارضيها، والأمثة أكثر من أن تحصى، ولعل سؤالاً لا بد أن يُطرح: من الذي دعم ولا يزال «داعش»؟
ما بال الحرب في اليمن التي قيل لنا إنها معركة خاطفة، وها هي قد طالت حتى نُسيت من الجمهور الأوسع إلا بائسي اليمن، الذين عادت بهم إلى زمن أوبئة الكوليرا، التي ظننا أننا نسيناها.
وفي مصر فإن النظام يعتقل ويصفي عشرات الآلاف من الناس في ظروفٍ نربأ أن تمر بمثلها حتى البهائم. الآن في أحد السجون يقبع الباحث هشام جعفر وقد تواترت أخبارٌ عن تدهور بصره الذي يوشك أن يفقده، من دون أن يحظى برعايةٍ طبية، وفق حرمانٍ متعمدٍ ومتعةٍ مريضة؛ وكما أسلفت وكتبت سابقاً فهذا اسمٌ نعرفه بين عشرات الألوف.
قبل هذا وذاك، ما أخبار إرهاب الكيان الصهيوني الذي ما زال يحتل أرضنا ويخوض حرباً بعد أخرى ضد الفلسطينيين قاتلاً ما تيسر. لا شك أن هؤلاء لا سعر لهم ولا قيمة في حسبة محور النفط، لاسيما وأن إسرائيل لم تعد عدوهم (منذ زمنٍ أبعد من أن يعترفوا في حقيقة الأمر) والعمل جارٍ بشكل متواصل لاستيعابها في المنطقة.
فالمشكلة الآن في إيران التي عادتها منذ ثورتها، فدعمت كل إرهابٍ ضدها. لا يفهمن أحدٌ أنني أعفي قطر من دعم الإرهاب، إلا أنني لا أدينها وحدها، بل أتهم الجميع، الجمل بما حمل، تلك المنظومة التي تخطاها الزمن برمتها ولا تدين ببقائها سوى لجملة معقدةٍ من الظروف والموروثات التاريخية الأثقل من الجبال، وربما عدم نضج البدائل. يحضرني في هذا المقال ما قرأته يوماً لروبرت فيسك وأظن ذلك كان في كتابه عن حرب لبنان، حين قرر بأن كل فصيلٍ في الحرب الأهلية قد تحالف مع كل الفصائل وحارب كل الفصائل في مرحلةٍ ما.
كذلك الحال مع الإرهاب.
لكن في لعبة الأوراق المختلطة، حيث تدعم كلٌ من السعودية وقطر إسقاط بشار، على سبيل المثال، بينما تختلفان في مصر، في تلك اللعبة المحرم الوحيد لدى محور النفط والمملكة السعودية خاصةً، هو الانفتاح على إيران، أياً كانت أسبابه وحساباته والأطراف الحاضة والدافعة إليه.
الخلاصة، إن من البذاءة مقاطعة شعبٍ ناهيك عن كونه عربياً بدعوى الإرهاب من قبل دولٍ وأنظمةٍ قامت وتعيش عليه، مع فارق أن إرهابها أوسع وأشمل وأعمق.
أدرك أن الاحتفاظ بالتماسك والاتساق الفكريين والمبدئيين وصفاء الرؤية أمورٌ شاقة، إلا أنه لا مهرب منها. هي فرض عينٍ في زمن الضياع والثورة المضادة الذي نعيشه، تماماً كتذكر قضايانا الأساسية، الأرض والخبز والحرية والكرامة العدالة الاجتماعية.
تماماً كرفض أن نرى ما يراه سدنة الهياكل المدافعين عن عروشهم وأنظمتهم وأن نكون حطباً لحروب جوعهم الأزلي وخلافاتهم وخرافاتهم المقبلة.
كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل