جغرافيا الانقلابات العسكرية
بنظرة سريعة يمكن أن نلاحظ أن الانقلابات العسكرية تتركز بالدول الأكثر تخلفا والأقل نموا والمستقلة حديثا حيث نجد ما يلي: بداية من سنة 1949 وإلى الآن تموز/ يوليو 2013، شهدت الدول الافريقية 91 انقلابا ناجحا و109 محاولات انقلاب و145 مؤامرة انقلابية، وفي ذات الفترة عرفت أمريكا اللاتينية 70 انقلابا ناجحا، كما شهدت دول منظمة التعاون الإسلامي 109 انقلابات كان نصيب الدول العربية منها 37 انقلابا ناجحا، وفي نفس الفترة لم تعرف أوروبا الغربية سوى انقلابين، احدهما في اسبانيا والثاني في البرتغال. وعرفت دول أوروبا الوسطى والشرقية 22 انقلابا منها 5 في اليونان وحدها .
وما يمكن ملاحظته أن الانقلابات تحولت إلى أشبه شيء بالحمى المتواصلة في بعض الدول، فكلما حصل انقلاب استدعى انقلابا آخر يتبعه، إذ لا شرعية لغاصب لأن الوصول للحكم بالقوة يجعله ينهار بزوالها، لأنه يمكن التمرد على أي منظومة سلطوية سائدة بمجرد امتلاك القوة للمواجهة، وهذا يعني أننا لم نعد في إزاء منظومة حقوق وإنما إزاء صراع قوى وهذا ما يفسر انه كلما شهد بلد ما انقلابا ازداد احتمال وقوع انقلاب آخر في البلد. فعلى سبيل المثال عرفت هاييتي 26 انقلابا وبوليفيا 14 انقلابا وأفغانستان 12 وسورية 8 وموريتانيا ونيجيريا 6 وبوركينا فاسو والعراق 5 والسودان وتركيا 4 وباكستان وأوغندا والجزائر 3 ومصر 2 ولا تخلو تقريبا دولة عربية من انقلاب أو محاولة انقلابية على الأقل، وهو أمر يجد جذوره في غياب الاستقرار السياسي وافتقاد آلية واضحة للتداول على السلطة، بالإضافة إلى تغول العسكر والتدخل الأجنبي بامتداداته المختلفة .
الانقلاب العسكري والتدخل الأجنبي
من النادر أن يتم انقلاب ما دون أن يتم إخطار أجهزة الاستخبارات الأجنبية، حيث يقوم الانقلابيون أنفسهم بالاتصال بالقوى الأجنبية لطمأنتهم على مصالح دولهم والحصول على دعمهم الضمني، بل كانت بعض الانقلابات نتاجا لترتيب خارجي حيث تقوم قوة خارجية تريد إسقاط حكومة تهدد مصالحها بتجنيد متآمرين من قيادات جيش البلد المستهدف لتنفيذ انقلاب ضد الحكومة القائمة بالبلد، أو لقطع الطريق أمام قوة شعبية صاعدة قد تشكل خطرا على نفوذها. وقد أظهر عديد الدراسات الإحصائية في أمريكا اللاتينية انه كلما تلقى بلد ما مساعدات عسكرية من الولايات المتحدة كان هذا البلد أكثر عرضة للانقلابات (انقلاب غواتيمالا 1955، الدومينيكان 1961، كوبا 1959، تشيلي 1973 فنزويلا 2002 الخ ..) ومن المعروف تاريخيا أن أول انقلاب عرفته المنطقة العربية سنة 1949 كان في سورية على يد حسني الزعيم وبتخطيط أمريكي، كما يؤكد مايلز كوبلاند رجل الاستخبارات المركزية الأمريكية بالشرق الأوسط، في كتابه ‘لعبة الأمم’، الذي تحدث أيضا عن الدور الأمريكي المهم والفعال في التدبير للانقلاب المصري في يوليو 1952، بالإضافة إلى انقلابات أخرى كثيرة تمت ضد أنظمة مناوئة للمصالح الأمريكية (أشهرها الانقلاب ضد الدكتور مصدق في إيران سنة 1953 على سبيل الذكر لا الحصر).
وتصدق نفس الظاهرة على فرنسا حيث لوحظ الترابط الوثيق بين التعاون العسكري الفرنسي مع دولة ما والانقلابات التي تشهدها لاحقا، لأن التعاون العسكري يفتح المجال لبناء علاقات بين ضباط من الجيش والقوى الأجنبية التي توظف مثل هذه الارتباطات لحماية مصالحها عند وصول أي حكومة مناوئة للمصالح الأجنبية. وفي هذا السياق يقول جان شارل مارشياني الضابط السابق بالمخابرات الفرنسية انه ‘بين الدور الأول والثاني للانتخابات الجزائرية كانت هناك اتصالات ساهمت فيها بين الجنرالات الجزائريين وفرنسا، كنت في قصر الاليزيه مرتين أو ثلاث مرات عندما أعطى الرئيس ميتران موافقته بطريقة غير مباشرة ولكن جد واضحة، لم تكن طريقة رسمية ولكنها كانت جد واضحة لمنع إجراء الدور الثاني من الانتخابات الجزائرية’.
ومما تقدم يمكن القول ان الانقلابات العسكرية شكلت أداة لخدمة مصالح أجنبية وتنفيذ أجندات مشبوهة، وهي في أحيان كثيرة تفضي إلى ظهور أنظمة استبدادية شديدة القسوة وفاشلة في بناء اقتصاد قوي أو حتى في الدفاع عن حرمات الوطن، الذي ادعى العسكريون السهر على حمايته. وبقي أن نشير في هذا السياق الى أن ثمة نماذج ناجحة لإفشال انقلابات عسكرية عبر الإرادة الشعبية، لعل أشهرها الانقلاب على الرئيس الفنزويلي (2002) الذي دبرت له المخابرات الأمريكية وتم على مراحل، بداية من تحريك الشارع مرورا بتوجيه رئيس هيئة الأركان إنذارا شديد اللهجة للرئيس هوغو شافيز قائلا ‘إن القيادة العسكرية العليا مضطرة للقول للرئيس أنت السبب في كل هذا، لقد حان الوقت للتنحي، إذا لم تقم بهذه الخطوة فشخص آخر سيفعل’، وتحركت وحدات عسكرية لتقوم بالسيطرة على مؤسسات الدولة واحتجاز الرئيس وتعيين بيدرو كرمونا رئيسا مؤقتا، غير أن هذا الانقلاب فشل تماما بعد خروج أنصار الرئيس المعزول إلى الشوارع والمرابطة فيها وصولا إلى إفشال الانقلاب وعودة شافيز إلى السلطة من جديد .
إن الإرادة الشعبية تظل في النهاية أقوى من إرادة الانقلابيين مهما كانوا حتى إن استقر لهم الوضع لفترة فإن انهيار نظامهم مسألة وقت ليس إلا، وكما يقول روسو ‘ليس الأقوى بقوي دائما قوة تجعله يسود أبدا إذا لم يحول قوته حقا والطاعة واجبا’، ولا تصبح القوة حقا والطاعة واجبا إلا إذا كانت نتيجة للإرادة الشعبية الحرة وعبر صناديق الاقتراع وليس غيرها .
‘ باحث في الفكر السياسي من تونس