ويبقى السؤال الكبير: لماذا؟
لماذا يختلف العرب؟
لماذا ينقسمون؟
أو لماذا هذه الحالة من الاحتراب الداخلي العربي؟
في البلدان التي يوجد فيها سنة وشيعة، ننقسم على أساس طائفي، وننادي يا لثارات صفين، ونستدعي الحسين ويزيد، ويغيب عنا بالطبع أبو موسى الأشعري، وفي البلدان التي ينعدم فيها العامل الطائفي تحضر الخرائط والجغرافيا والجهات الأربع، ويضع كل واحد بوصلته، ويحدد نجمه الذي يدله على التوجه الصحيح، فننقسم إلى شماليين وجنوبيين، وننقسم إلى أهل الشرق وأهل الغرب، وعندما يهدأ غبار الخرائط تحضر «داحس والغبراء» وتثير المزيد من الغبار، وننقسم إلى قحطانيين وعدنانيين، وعرب الجنوب وعرب الشمال، والعرب العاربة والمستعربة، ويظل السكين يمر على الأجزاء والأقسام إمعاناً في المزيد من التقسيم والتجزئة.
ويطيب لنا أحياناً عندما لا توجد العوامل الدينية الطائفية أو الجغرافية الجهوية أو القبلية العرقية للانقسام، يطيب لنا أن ننقسم على أساس معسكرين: ليبرالي عصري، وإسلامي أصولي، وتثور المعارك من جديد، ونستحضر «الليبرالي التقدمي» عمرو بن بحر الجاحظ و»الأصولي الرجعي» عبدالله بن قتيبة الدينوري، وهكذا. الشيء المدهش في فريقي الصراع كليهما أنهما يحويان المثالب والمحامد ذاتها، وكل ما في الأمر أن كل فريق لا يرى في خصمه إلا المثالب، ولا يرى في نفسه إلا المحامد.
نظرة على مقولات الإسلاميين والليبراليين العرب، وأخرى على سلوكياتهم السياسية والاجتماعية – مثلاً- تكشف عن «تشابه بنيوي» في الهياكل الذهنية والأنماط السلوكية، بشكل يجعل المرء يشك في حقيقة وجود فروق حقيقية بين الفريقين من جهة القواعد البنيوية للتفكير والسلوك، حتى إننا إذا أردنا أحياناً أن ننتقد الليبراليين، فما علينا إلا أن نقرأ ما كتبوه عن خصومهم الإسلاميين من عيوب، والعكس صحيح، إذا أننا لا نختلف إلا على مستوى الخطاب والمظهر، لكن البنى الذهنية والسلوكية تكاد تكون متطابقة، بمعنى أن الفروق هي فروق شكلية، لكن الجوهر متشابه إلى حد كبير. ولأن الفروق شكلية، فقد اتخذ الصراع في القرن الماضي منحى مظهرياً باختصاره في رمزية «صراع الطربوش والقبعة»، القبعة بما هي أيقونة «حداثية أوروبية»، والطربوش باعتباره رمزاً «رجعياً عثمانياً».
يطرح الكثير من الليبراليين – مثلاً- مسألة اضطهاد المرأة العربية كإشارة على تخلف المجتمعات العربية، وينطلقون من هذا المنطلق للتشنيع على الخصوم من الإسلاميين، وحقيقة الأمر أن الكثير من الليبراليين عند فحص التطبيق العملي لطروحاتهم النظرية يعانون من نوع من الفشل الفاضح، ومن هنا تأتي الطرفة التي كانت تردد بأن الليبرالي يريد «سفور المرأة المسلمة» ليتمتع بها، فيما يريد الإسلامي «حجاب المرأة المسلمة» ليحتفظ بها لنفسه. وفي السياق السياسي يتحدث الكثير من الإسلاميين عن قضايا الديمقراطية، لكنهم عندما يصلون للسلطة (وصلوها في بعض البلدان) فإنهم يمارسون الديكتاتورية المقنعة، ولا يأخذون من الديمقراطيات إلا عدد الأصوات التي حصلوا عليها من صناديق الاقتراع، وهنا ينطلق الليبراليون لتأكيد مقولة إن الإسلاميين يريدون الديمقراطية من أجل التخلص منها عندما يصلون إلى السلطة، ويرد الإسلاميون بأن الليبراليين أقلام السلطة وحملة مباخرها، وهكذا.
وفي ظل هذا التشابه الكبير بين السنة والشيعة، والشماليين والجنوبيين، والشرقيين والغربيين، والعرب العاربة والمستعربة، وعرب الطربوش وعرب القبعة، في ظل هذا التشابه على طريقة «كلنا في الهم شرق»، فإن ما يبدو من انقسام بين العرب لا يمكن توصيفه بالانقسام المبدئي الذي يدور حول القيم والأفكار والتوجهات والأبعاد، ولكن الانقسام هنا يعد ضرباً من الانقسام المعيب الذي لا يبعد فيه المنقسمون عن ذواتهم الأنانية ومصالحهم الضيقة، التي يغطونها بشعارات براقة على مستوى الخطاب، تخدع الجمهور الذي بدأ يدرك حقيقة أن «البقر تشابه علينا» على حد تعبير القرآن الكريم.
نعود لنقول: إننا لكثرة ما سمعنا من معارك إعلامية ورأينا من حروب عسكرية في العراق وسوريا، أصبحنا نشك إننا إزاء شعب واحد في كل بلد، بل أصبحنا إزاء معسكرين: واحد يقوده علي بن أبي طالب، والآخر يقوده عمر بن الخطاب، وأما في ليبيا على سبيل المثال: فهناك حرب أهلية لا تتحدث عن السنة والشيعة، ولكنها حرب بين أهل الشرق وأهل الغرب، وهي في معظمها تقوم على أساس قبلي تتلبس بلبوس الجغرافيا، وفي اليمن دخلت الطائفية مؤخراً مع ورود أفكار خمينية وأخرى طالبانية، غير أن اليمنيين ابتلوا كذلك بنكد الانقسام المناطقي، حيث يحاول البعض تقسيم اليمنيين على أسس شطرية كما كانوا قبل عام 1990، إضافة إلى الانقسام الذي يبدو فيه العامل القبلي بارزاً في بلد لم يتحول بعد من التركيبة القبلية إلى بنية اجتماعية منسجمة. مصر تخلو من النكد الطائفي أو أنه ليس بارزاً في ثوبه «السني-الشيعي»، وإن كان هناك من يحاول جر مصر إلى ضرب من التقابل «الإسلامي -المسيحي» البديل، لينفجر الخلاف، لكن مصر مبتلاة بالصراع العنيف الذي كان في النصف الأول من القرن الماضي، بين دعاة العودة للماضي ودعاة الانفتاح على الغرب، وإن كان الصراع اليوم قد تلون إثر مروره بمنعرجات كثيرة صبغت لغته وخطابه بمزايا أسلوبية تغترف من قاموس مختلف إلى حد ما عن القاموس الذي كان يغترف منه قاسم أمين وطه حسين ومصطفى صادق الرافعي والمنفلوطي على سبيل المثال.
انقسمت مجتمعاتنا رأسياً وأفقياً، وانقسمت الأقسام إلى أقسام، حتى ليخيل للمراقب لكثرة الانقسامات في شعوبنا أن الفرد العربي منقسم على نفسه، لكثرة ما تنتابه من أفكار وآراء ومعتقدات وتوجهات، كمن ضيع البوصلة في ليلة شديدة الظلام وسط ريح عاصف في إحدى مفازات الربع الخالي. كيف نخرج من هذه الانقسامات المتشظية، والانشطارات المتوالدة بشكل وبائي إذن؟
المخرج في الاعتراف بالتنوع، وهو غير الانقسام، المخرج في الاعتراف بالاختلاف، وهو غير الخلاف، والمخرج أن نعترف بأننا نكذب عندما نزعم أن خلافاتنا مبدئية فيما نحن متشابهون في طرائق التفكير وأنماط السلوك، ووسائل البحث عن المصالح. وعندما نذكر المصالح، فإننا مطالبون بأن نعترف بأننا على مستوى الخطاب نرفع «المبدأ»، فيما نحن على مستوى الممارسة، نشهر «المصلحة»، وإذا ما عرفنا ذلك، فإننا يجب أن نميز بين «المبدأ و»المصلحة»، وألا نوظف «المبدأ» لتحقيق «المصلحة»، لأننا نسيء بذلك لمبادئنا ومصالحنا على السواء. علينا أن نجعل مبادئنا قيماً اجتماعية، وأنماط سلوك معيشة نمارسها في الحياة العملية، لتكون عوامل توحيد لمجتمعاتنا في وجه عوامل الانقسام التي تأتي بها صراعات المصالح السياسية والاقتصادية، تلك العوامل التي يمكن أن نقلل من خطورتها إذا ما نظمنا الكيفيات التي يتحصل بموجبها كل فريق على مصالحة، وفقاً للقيم والمبادئ المشتركة المستندة على تراثنا التاريخي وقيمنا الحضارية، وانتمائنا الإنساني الكبير.
يمكن القول- إذن – إن العوامل الدينية الطائفية، والقبلية العرقية، والجغرافية المناطقية، والحضارية الثقافية ليست هي العوامل الأساسية للانقسام، ولكنها مظهر يغطي حقيقة أننا منقسمون على المصالح، منقسمون لأننا لم نستطع أن نوزع ثرواتنا وسلطاتنا بالحق، لأننا فشلنا في إقامة دولنا على أسس من العدل والحرية والمساواة، وعندما اختل الميزان انقسمنا، وعندما انقسمنا بحثنا عن عناوين ويافطات دينية وجغرافية وثقافية لتكون ورقة التوت التي نغطي بها بدائيتنا المنقسمة الخارجة من الغابة أو غرائزنا المتصارعة الخارجة من الصحراء.
والخلاصة: علينا أن نعي أن الشعارات الطائفية والجهوية والقبلية والليبرالية والإسلاموية تستعمل اليوم في بلداننا لتغطية مصالح أصحابها، وإذا أردنا الخلاص من وطأة الشعار، فما علينا إلا أن ننظم مصالحنا بالحق والعدل وفقاً للأنظمة والقوانين. أخيراً: الناس لا ينقسمون حول قيمهم لأنها مشتركة، ولكنهم ينقسمون حول مصالحهم لأنها متصارعة.
هذه هي الحقيقية، وما عداها باطل الأباطيل وقبض الريح.
كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»
د. محمد جميح
لا آلة إلا الله محمد رسول الله ايش اكتب من شدت إعجابي بهذا المقال يا محمد جميح لافضفوك ضيعت كل من كتب بالقلم بصراحة وكاد لا أصدق انك من بلدي وأقول القول المعتاد ماشاء الله عليك وعلى عقلية وصلت إليها أستاذ محمد جميح بالنسبة لي انت منارة وشمعة أتمنى أن تنتشر في اليمن وسائر بلدان العرب
” بل أصبحنا إزاء معسكرين: واحد يقوده علي بن أبي طالب، والآخر يقوده عمر بن الخطاب،” إهـ
علي وعمر بريئين من هؤلاء التكفيريين من الطرفين
ولا حول ولا قوة الا بالله
وهو ما يقصده بالضبط الدكتور جميح ، عزيزي الغالي داود لو قرأت ما بين السطور و فوقها ، في مقاله الهائل هذا و كالعادة و الذي يؤسس لبرنامج و منهج للعقلاء من القوم.
.
اتمنى على د. جميح التوسع في هذا الموضوع بكتاب يضعه تحت ايدي المهتمين و يطرح فيه افقه الواسع الذي تظلله حكمة اليمن !
مع احترامي لراي الدكتور محمد جميح فاني اقولها بدون مراوغة اننا شعوب متخلفة وطاءفيون وعنصريون وكل الاحداث التي مرت علينا تثبت اننا لم نعرف يوم مصالحنا
تحياتي للدكتورمحمد جميح : أمس كنت مع صديقين مثقفين يحملان شهادة عالية ؛ تناولنا مضمون موضوعك تقريبًا.أحدهما قادم من كندا بعد غربة لأكثرمن خمس سنين هاربًا من البرد القارس إلى الحرّ الهارس ؛ والآخرمعي كالظلّ.وكلّ أدلى بدلوه في شؤون الأمة اليوم.ليقول : يابشرى هذا ( غلام ).وأستأذنت منهما القول : إنّ منطقة الشرق الأوسط ( والتي أسميها من عندياتي ب : الشرق الإبراهيميّ ) لا يمكن فقه الصراع فيها على أساس الأسباب والنتائج.بل فيها شيء يختلف عن ( الديالتيك التقليديّ ) وهوالذي سمّاه هيجل ( روح التاريخ ). وسميته ( مزاج التاريخ ).ومزاج أوروح التاريخ شيء كالفطنة تظهرفجأة في موقف جلل ؛ بعد نصرأوهزيمة لكنها لا تزول إلا بزغاريد مشوبة بعذاب ؛ ثمّ تختفي بطيئة زاحفة ثقيلة كظلّ الجبال الغرابيب.فكأنّ ردم يومها بألف سنة مما تعدون…ففيها من خصائص الماء صفة : ( اكتساب الحرارة ببطء وفقدها ببطء ).من هنا أضيف : أنّ الصراع هوصراع مصالح ؛ فهذا تشخيص دقيق.لكنه فوق ذلك صراع أقدارلترتيب أقدار؛ قد تقصروقد تطول.وللمحافظة على هذه المصالح الصانعة لتلك الأقداريكون القناع والديكور: الطربوش أوالقبعة وكذلك العقال…ففي تاريخ الشرق القديم هناك وصية رائعة للملك الفارسيّ أردشير؛ تتناول وصيته للملوك وكيفية اتخاذهم للبطانة الخاصة.وتأثيرهذه البطانة سلبًا وإيجابًا على مصالح الأمة.هي سبع صفحات منشورة مع كتاب أبي حيان التوحيدي ( الإمتاع والمؤانسة ) مع ملاحظة أنّ بعض الطبعات الحديثة رفعتها من الكتاب ؛ دون الإشارة للسبب.وجديربكلّ مختصّ في الإعلام السياسيّ وغيرالسياسيّ أنْ يطلّع عليها…كأنها كتبت لأيامنا هذه. من هنا ( التأمين / آمين ) أنّ البطانة المرتبطة بالحاكم الأول منها يبتدأ الانقسام ؛ فتنقسم البطانة التالية للوزير؛ ثمّ البطانة التالية للمديرثمّ البطانة التالية للضابط الخفير.فالناس على دين ملوكهم سائرون.فهي سلسلة من الانقسامات تتوالد كالفطر..لينقسم المجتمع رأسيًا بعدما انقسمت الدولة أفقيًا.لهذا لا تزول هذه البطانات المتحجرة إلا بالسيف فتكون الثورة…تتبعها الثورة المضادة والتدخلات الخارجية ؛ فترى الناس في صراع أفقي عامودي وطبقي قبائلي ومجتمعي هيلمان حتى يزيح المطرالجوديّ صفة ماء الأرض الآسن من مستنقع الغدران…
ليبتدأ أحد تلك الأقداربالجريان…حتى لو كان فوق رأسه عرف هدهد بلقيس وسليمان.
فخورون انك يا استاذ جميح من اسرة تحرير جريدة القدس … فهذا المقال ضربة ( معلم ) . ولا يفوتني الاشادة بتعليق الدكتور جمال البدري الذي هو اضافة للمقال بموجب فلسفة التاريخ … زادكم الله علما .
مقال جميل ومعبر في معظمه عن واقعنا المرير الذي لا يسر صديق،من فرقه وتقسيم حتى المقسم
نجح الأستاذ الدكتور جميح بتشخيص دقيق لبعض أسباب الفرقه وتعدى ذلك وقدم بعض وصفات الدواء،،وعلى رأسها ذكر التنوع وقبول الأختلاف ولإعتراف بالأخر ،،أما بالنسبه لموضوع المصالح فهي حقيقه راسخه أن المصالح من تحدد طبيعه العلاقات بين البشر بعضهم البعض،،
عندي ملاحظه فقط حول نقطه اثرها الدكتور جميح في قوله ( وفي السياق السياسي يتحدث الكثير من الإسلاميين عن قضايا الديمقراطية، لكنهم عندما يصلون للسلطة (وصلوها في بعض البلدان فإنهم يمارسون الديكتاتورية المقنعة) ا ه.
أعتقد أنه ليس من العدل القياس على تجربه وصول الأخوان إلى سده الحكم في مصر (أو حتى السودان) مع العلم أني اخالف الأخوان بشكل شبه كامل سواء من حيث المباديء أو حتى التطبيق و وبشكل خاص أفاخلف مبدأ (سلميتنا أقوى من الرصاص، وليس مع حملهم السلاح أيضا) وان كنت مدافعة شرسا عن شرعيه الرئيس مرسي (لما يمثله من شرعيه الصندوق) ونقف معهم في محنتهم منذ مذبحه رابعه وأخواتها،،قصر الفتره الزمنيه والظروف الزمانيه والحكم الموضوعي يفرض بعدم الحكم على الاسلاميين في الحكم من خلال تجربه غريبه بعض الشيء، (برغم اخطاؤهم الكثيره والتي تكفي للحكم عليهم كجماعه وليس كحزب سياسي وصل سده الحكم).