الناصرة – «القدس العربي»: تكشف دراسة اسرائيلية مبنية على أرشيفات صهيونية تاريخية كيف كانت منظمة الهاغاناه الصهيونية تتجسس على الفلسطينيين من خلال ريادة المقاهي في حيفا العامرة بمرافقها الترفيهية قبيل نكبتها عام 48. وتقول الباحثة اليشا بيسكسن الإسرائيلية في مقدمتها للدراسة إن المقاهي تشكل مساحات مدهشة، عوالم مصغرة عن الثقافة، الأزياء، فن الطبخ، واللغة والنميمة، ونشاط المجتمع ككل، هو مكان يأتي اليه الناس ليشاهدوا ويُشاهدوا، للتخلص من ثقل الحياة اليومية ومن الحيز السياسيّ المشحون.
عن طريق الصدفة
وأوضحت أن زيارتها الأخيرة لأرشيف الهاغاناه كانت بهدف إيجاد ملفات ومعلومات عن القرى الفلسطينية في منطقة قيساريا الساحلية قبل عام1948 ، ووجدت بين مئات الملفات «مسوحات القرى» التي أعدها أفراد وحدة المخابرات التابعة للهاغاناه «شاي» ومعها وجدت أيضا معلومات ووثائق عن فرقة الجوالة التابعة لمخابرات الهاغاناه ومنها وصف للمقاهي في حيفا.
يشار الى أن المؤرخ اليهودي التقدمي البروفسور ايلان بابه صاحب كتاب التطهير العرقي لفلسطين، كشف في دراساته أن الصهيونية مسحت الواقع الشامل لحياة الفلسطينيين في المدن وبالذات في الأرياف ضمن «ملفات القرى ج» لتسهيل الحصول على معلومات استخباراتية تعينها في تحقيق مبتغاها بالاحتلال والتهجير والتطهير العرقي.
وحسب هذه الدراسة كان أسلوب الجوالة لجمع المعلومات يشمل التخفي بزي كشافة فضوليين، أو التسلل المموه لمناطق السكن الفلسطينية، سواء القرى أو المدن، ورسم المنطقة والطبوغرافيا، والحيز المدني، والمساجد، وأماكن تجمع الناس، والزراعة والمساحات الخضراء وغيرها. وتضيف الباحثة « لم أتخيل إيجاد كلمة «مقهى» في ملفات التجسس، خاصة وأن كلمة مقهى لا تستحضر في الذهن شيئاً من الخطورة حين يكون الحديث عن قرية، وأيضاً لأني لم أتوقع أن تكون المقاهي مركزاً لجمع المعلومات، ولهذا لم أستطع تجاهل القائمة الطويلة التي تجلت أمامي تحت عنوان « المقاهي العربية في حيفا وأصحابها عام 1941»،
لافتة الى أن السبعين مقهى التي ضمتها القائمة، رقم خيالي نسبة لمدينة صغيرة كحيفا في تلك الفترة، صنفت هذه المقاهي من قبل أفراد مخابرات الهاغاناه بثلاثة أنواع: النوع الأول مقاهه تشكل مكاناً يتجمع فيه نشطاء سابقون ولا يزالون في الحاضر. النوع الثاني، مقاه يتجمع فيها نشطاء لكن بصورة أقل من مقاهي النوع الأول. النوع الثالث، مقاه يتجمع فيها نشطاء كانوا فعالين في أوقات الأحداث (الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 ) وسينشطون في حالة انكسار حالة الهدوء، ولكن حالياً هم ليسوا نشطاء.
سجلات المقاهي الحيفاوية
وتم إدراج كل مقهى مع اسمه، أسماء أصحابه، وديانتهم، وعنوانه، ونوع النشاطات فيه (أمثلة: المقهى يشكل ملتقىً يتجمع فيه العامة دوماً وفيه زوار كثيرون من الشرطة البريطانية ونساء محجبات من الصعب تحديد طبيعتهن) موضحة أن المقهى يشكل مكاناً دعوياً في الأمسيات يتم تمويهها بعزف الكمان وإلقاء الشعر. وهناك معلومات حول السؤال هل تُباع المشروبات الروحية أم لا، وبمن يرتبط المقهى، وهل لديه أي ماض جنائي؟
وتبدي الباحثة استغرابها من طريقة عمل مخابرات الهاغاناه بالقول «غريب ومدهش، قلت لنفسي، غريب أن أفراد الهاغاناه، الذين من المؤكد أنهم كانوا مشغولين جداً، تعقبوا المقاهي، غريب أنه كان لأفراد الهاغاناه اليهود منفذ سري لهذه الدرجة في الشارع العربي في حيفا، مكنهم من جمع معلومات تفصيلية، ومن المثير أنهم فعلوا ذلك، تماماً ككل التوثيق المكتوب والمرئي الذي جمعته التنظيمات الصهيونية عن المجتمع العربي في البلاد بهدف السيطرة والاحتلال، هذه المعلومات في الكثير من الأحيان هي آخر الآثار الباقية عن الحياة التي كانت هنا قبل النكبة أحداث عام 1948 من وجهة النظر الفلسطينية.
في المقابل تنبه للقيمة العلمية للوثائق بالنسبة للباحثين بالقول إن قائمة المقاهي التي عملت في حيفا في سنوات الأربعين، هي وثيقة مدهشة ونادرة، تضم أسماء المقاهي، عناوينها، أسماء أصحابها وعناوينهم، وأسماء مالكي الجيوب الثقافية هذه. انها ثروة حقيقية بالنسبة للمؤرخين ومؤرخي التاريخ الاجتماعي. وتضيف «لا شك أن مصداقية المعلومات الواردة عن أصحاب المقاهي ونشاطاتهم يعتريها الشك نظراً للسياق الذي جمعت فيه، حول ذلك سأتوسع لاحقاً، ولكن المعلومات ذاتها حول وجود هذه المقاهي وموقعها في المدينة لها قيمة تاريخية كبيرة».
وحسب الموظف في أرشيف الهاغاناه، شمري سولمون، قائمة المقاهي أعدت على يد نشطاء ومندوبي القسم العربي في المخابرات. ولا يظهر شخص واحد محدد كمنتج للملف، ولكن الذي وقّع في نهايته هو بنيامين وهو لقب الناشط في وحدة مخابرات الهاغاناه في حيفا (وفي أماكن أخرى) في ذلك الوقت، يوسف دافيدسكو. بخصوص سؤالي حول منفذ النشطاء اليهود لقلب الحياة في الشارع والمقهى في حيفا أجاب سولمون: اليهود وأيضاً الوكلاء العرب عملوا في المخابرات، فهمت وحدي من خلال مراجعة الملفات، أن تجنيد العرب تم من خلال الابتزاز حيث يمكن رؤية ذلك في الملف ذاته لقائمة المقاهي، ويبدو أن هذا هو السبب بأنه وفي كل سجل هناك إشارة لوجود أو عدم وجود تصريح لبيع الكحول، المعلومات هذه يبدو أنها استخدمت ضد أصحاب المقاهي. ويضيف منبها «على أي حال بغض النظر سواء سُجلت المعلومات على يد متعاون عربي أو على يد رجل استخبارات يهودي فلا يجب في كلتا الحالتين التعامل مع المعلومات كحقيقة تعبر عن الواقع».
ترميم الذاكرة
ويقول الباحث العربي فادي عاصلة الذي تولى ترجمة الدراسة من العبرية، إنه بالإضافة للدراسة التاريخية تنطوي هذه الأرشيفات على معلومات مهمة جدا لترميم الذاكرة. ويقول لـ «القدس العربي»: «أتمنى أن تخدم القائمة الباحثين والباحثات المهتمين في التاريخ الاجتماعي لحيفا، وبالنسيج المدني للمنطقة قبل عام 1948 .أبناء حيفا المخضرمون عرفوا ربما تحديد المباني الواردو عناوينها، رغم أن بعض الشوارع تغير أسمها، قد يوسع البعض البحث ويحاول الوصول لعائلات أصحاب المقاهي. حيفا كانت وما زالت مدينة مختلطة، ومقاهيها كانت مساحات مدنية وشعبية. لافتا الى ان هناك العديد من الإمكانيات للحفاظ على ماضي المدينة المتميزة بكونها عاصمة اقتصادية وثقافية، إحياؤه والتعلم منه، وعادة تحديد المقاهي، وإنتاج مسارات تجوال في أعقابها، لقاءات مع أحفاد أصحاب المقاهي، جمع شهادات شفوية وأشياء أخرى، كل ذلك نشاطات قد تساهم في مواجهة تهويد المدينة وإنتاج حالة اغتراب تجاهها لدى المتبقين فيها من أصحابها.
من المقاهي السبعين التي تشملها الأرشيفات : مقهى بانوراما والعراق والحجاز ويافا، ومقهى في شارع ابن الأثير 31 مقابل محطة الكرمل، وحيفا، وبيت الياس عيون ومقهى في شارع الملوك 30، وبيت حبيب، ومقهى في ساحة الحمرا، بيت محشان، ومقهى في سوق الأبيض، ومبنى دير اللاتين ومقهى في شارع الملوك 42، وغيرها الكثير.
وديع عواودة