الناصرة ـ «القدس العربي»: في زحمة الأحداث الدرامية من الجولة الراهنة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أرض الواقع، تتجلى مظاهر تديينه وتلوح في الأفق بوادر عودته للمربع الأول، إلى عام 1948. مرة أخرى تظهر زهرة المدائن في محور الصراع، بل تشكّل جوهره فيما يعمل المسجد الأقصى عاملا ناظما للأوراق المتناثرة منذ سبعة عقود فيوحد الفلسطينيين الذين تسعى إسرائيل لتفتيتهم إلى خمسة شعوب. وفي رأي المؤرخ بروفسور مصطفى كبها، فإن نظرة واحدة للخلف تظهر أن الصراع على فلسطين نشب في مفاصل كثيرة على خلفية محاولات صهيونية الاقتراب من الأقصى وتقاسمه. ويوضح كبها لـ «القدس العربي» أن هذا ما حصل في الهبة الفلسطينية الأولى بعد رحيل الحكم العثماني عن فلسطين عام 1921 عندما شهدت القدس أول انتفاضة شعبية ضد الاستعمار والصهيونية. لكن ذلك تجلى بوضوح أكبر في هبة تحمل اسم هبة البراق عام 1929 وهي رد فعل على محاولات أوساط صهيونية الزحف نحو الحرم وتقاسم حائط البراق بدعم من الاستعمار البريطاني. الشرارة انطلقت من هناك، وما لبثت النيران أن عمت كل المدن الفلسطينية الكبرى كيافا والخليل واستشهد وأصيب المئات من الفلسطينيين. وقتها أقدمت بريطانيا على إعدام ثلاثة من الناشطين الفلسطينيين (من صفد والخليل، محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير) حيث نصبت لهم مشانق في ميدان عام في عكا بهدف ترهيب عموم الفلسطينيين. وخلد ذكرهم شاعر الثورة الفلسطينية البارز الراحل نوح إبراهيم في قصيدة ما زال كل الفلسطينيين يرددونها حتى اليوم:
من سجن عكا وطلعت جنازة
محمد جمجوم وفؤاد حجازي
وجازي عليهم يا شعبي جازي
المندوب السامي وربعو عموما
محمد جمجوم ومع عطا الزير
فؤاد حجازي عز الذخيرة
انظر المقدر والتقادير
بأحكام الظالم تا يعدمونا
ويقول محمد أنا أولكم
خوفي يا عطا أشرب حسرتكم
ويقول حجازي أنا أولكم
ما نهاب الردا ولا المنونا
أمي الحنونة بالصوت تنادي
ضاقت عليها كل البلاد
نادو فؤادي مهجه فؤادي
قبل نتفرق تا يودعونا…
وفي فترة الانتداب أدرك زعيم الفلسطينيين المفتي أمين الحسيني مكانة الأقصى بالنسبة للمسلمين في العالم فحوله لشعاره وجند الدعم المادي والمعنوي لفلسطين وقضيتها من الشرق والغرب.
وحتى اليوم لا شيء يجاري الأقصى ذلك بفضل ما يحظى به من مكانة في وجدان الفلسطينيين أينما كانوا بصفته معلما تاريخيا حضاريا ودينيا ورمزا وطنيا من الطراز الأول إن لم يكن الأول في قائمة الرموز الوطنية. وتأتي عملية الأقصى الأخيرة لتبين اتجاه الصراع نحو التديين ونحو العودة لنقطة البداية، فمنفذوها هم من فلسطينيي الداخل، ممن عملت إسرائيل على قطع فرعهم من شجرة شعبهم الفلسطيني ضمن رغبتها في السيطرة عليهم وتحييدهم. لكن فلسطينيي الداخل بالذات، ويا للمفارقة فقد انقلب السحر على الساحر، وقاموا باستغلال قدرتهم على التنقل بحرية لاعتبارهم مواطنين في إسرائيل، من أجل فك الطوق المتواصل المفروض على القدس المحتلة والرباط في الأقصى وحمايته من مخططات كانت تبدو للبعض ضربا من الخيال وباتت اليوم حقيقة يقر بها الجميع. والحديث عن مخططات إسرائيلية تعمل على تقاسم مكاني وزماني في الأقصى بين أصحابه المسلمين وبين اليهود مثل الحرم الإبراهيمي الشريف وسط محاولات لاستغال الصمت والتخاذل العربي وازدواجية معايير العالم وانشغاله بشؤون أخرى.
في مؤتمر عقدته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في تل أبيب تحت عنوان «مؤتمر هآرتس للسلام» قال أحد قادة المستوطنين وهو محاضر جامعي بارز إنه يؤيد إعادة حيفا ويافا وعكا للفلسطينيين على ان لا يفرط بحجر من مستوطنة بيت إيل. موضحا أن التخلي عن الضفة الغربية وبالذات عن القدس يعني تخلي الصهيونية عن الروح. وبذلك عبر هذا الأستاذ الصهيوني عن موقف ورؤية أوساط إسرائيلية باتت هي الأغلبية اليوم وترفض تسوية الدولتين لأنها تمنح الشطر الشرقي من القدس وحائط البراق للفلسطينيين مما يعني فقدانهم ما يعرف بـ «حائط المبكى» والتنازل عن فكرة إعادة بناء الهيكل الثالث المزعوم. فيما مضى كانت هذه فكرة تتمسك بها مجموعات من غلاة المستوطنين واليهود الغيبيين فقط، لاسيما أن المؤسسة اليهودية الكهنوتية المعروفة بالحاخامية الرئيسية كانت حتى أمس الأول تحظر دينيا زيارة الحرم الأقصى الشريف وإقامة شعائر دينية. أما اليوم فقد تبدل مواقف الكثير من المرجعيات الدينية بهذا الخصوص وتنتهك يوميا مجموعات من اليهود باحة الحرم القدسي الشريف وتقوم بشعائر دينية. لكن الأخطر هو ما كشفت عنه قبل مدة جمعية حقوقية إسرائيلية بارزة تعنى بشؤون القدس المحتلة وتدعى «عير عميم». في تحقيق موسع جدا تظهر «عير عميم» بشكل قاطع أن هناك 27 جمعية يهودية تعمل على إعادة بناء الهيكل المزعوم لا زيارة الحرم القدسي والصلاة فيه فقط. والأكثر خطورة أن هناك ست وزارات تمول هذه الجمعيات الغيبية المتطرفة وتساهم بالترويج والتحشيد لفكرة بناء الهيكل الثالث مما يعني بالضرورة هدم مسجدي الأقصى وقبة الصخرة. مثل هذا الواقع الدقيق يمنح الضوء الأخضر بشكل غير مباشر لعناصر يهودية متطرفة بتفجير مقدسات الفلسطينيين في الحرم القدسي تمهيدا لبناء مشروع الهيكل. وتجد مثل هذه الأفكار الغيبية تربة خصبة لدى الكثير من الإسرائيليين لا المستوطنين فحسب، وقد سبق أن قتل يغئال عمير من مدينة هرتزليا داخل الخط الأخضر رئيس حكومة إسرائيل يتسحاق رابين عام 1995 على خلفية معارضته لاتفاق أوسلو. خلال التحقيق معه وقتها قال إن رغبته بالحفاظ على الرواية الإسرائيلية التاريخية وعدم التفريط بـ «جبل صهيون» كناية عن القدس، هي التي حركته للقيام بإطلاق ثلاث رصاصات قتلت رابين وأصابت العملية السياسية مع الفلسطينيين بجراح يائسة تسبب لها بالموت السريري. وقادت التضييقات على الحرم القدسي والسماح لوزراء ونواب إسرائيليين بالقيام بزيارات استفزازية لهبة شعبية في 2014 لم تنته تبعاتها حتى اليوم. هذه الغيرة على الأقصى لدى الفلسطينيين الذين يرون به أيقونتهم الأولى وعنوان كينونتهم السياسية وخصوصيتهم الثقافية دفعتهم للانتفاضة الثانية عام 2000. وقتها صحيح سادت أجواء متوترة نتيجة انهيار مفاوضات كامب ديفيد في الولايات المتحدة لكن زيارة رئيس حكومة الاحتلال الراحل أرئيل شارون كانت سببا مباشرا لاندلاع نار كبيرة حرقت الخط الأخضر وشارك فيها فلسطينيو الداخل طيلة أسبوعين مما دفع قوات الاحتلال للرد بقسوة وعنف كبيرين بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين ومن بنادق القناصة فاستشهد 13 شابا داخل أراضي 48 وأصيب العشرات واعتقل المئات. في الواقع لم يقتصر دور فلسطينيي الداخل في الهبة دفاعا عن القدس والأقصى فقط بل سبقت ذلك بكثير مشاريع دعم صمود القدس وترميمات مقدساتها وأوقافها. وكان بناء المسجد المرواني في مطلع تسعينيات القرن الماضي من قبل الحركة الإسلامية في الداخل أهم هذه المساهمات التي استفزت سلطات الاحتلال وتسببت بجدالات قاسية داخل إسرائيل حول السؤال لماذا وكيف تمكن فلسطينيو الداخل من إفراغ «اسطبل سليمان» وبناء المسجد المرواني أسفل المسجد الأقصى. ولاحقا ومع تفاقم الاعتداءات والانتهاكات سيرت الحركة الإسلامية في الداخل بشقيها حافلات من المرابطين والمرابطات يوما إلى الحرم القدسي الشريف لإعمار مساجده بالصلاة والرباط وتعلم الدين مما دفع سلطات الاحتلال للإعلان عن الشق الشمالي من الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح كتنظيم إرهابي محظور في نهاية 2015. ولاحقا أعلنت أبضا عن تنظيم نسوي يدعى «مرابطات» كتنظيم إرهابي محظور لكن ذلك لم يمنع نساء فلسطينيي الداخل من الالتحام بالأقصى بكل وسيلة ممكنة كما تؤكد الحاجة مريم من عكا التي تقول لـ «القدس العربي» إنها تصحو من نومها عند الساعة الثالثة فجرا كل يوم جمعة للسفر للأقصى برفقة ابنها عماد لتأدية صلاة الفجر والظهر فيه. وتتابع «هناك يشع النور من عيوني فرحا للقائي بالأقصى الحبيب فهو قبلتنا الأولى ومسرى النبي المصطفى ورمز قدسنا وعروس فلسطيننا».
ولأنها تدرك قوة جذب الأقصى للفلسطينيين في الداخل وعدم ترددهم في دعمه والرباط به مهما اشتدت قبضة إسرائيل، فقد سارعت هذا الأسبوع لإغلاق مداخل القدس المحتلة بسد كافة الطرق المؤدية إليها، تحسبا ليوم الغضب الذي أعلن عنه بسبب وضع البوابات الإلكترونية على أبواب المسجد الأقصى منذ أيام. كما حولت المدينة إلى ثكنة عسكرية ودفعت بآلاف الجنود وعناصر الأمن إليها. ونصبت قوات الاحتلال الحواجز على مداخل المدينة منذ الليلة الماضية، ومنعت حافلات من مختلف البلدات العربية في الداخل من الوصول إلى القدس المحتلة، حتى لا يشاركوا في جمعة الغضب وفي الرباط أمام المسجد الأقصى وذلك من خلال حواجز عسكرية نصبتها بطول البلاد وعرضها وكل ذلك تحسبا من غضب ساطع سيأتي مهما كلف الثمن، فالأقصى بالنسبة للفلسطينيين هو روح القضية ولب كيانهم السياسي المشتهى.
وأعلنت شرطة الاحتلال عن إغلاق محيط القدس القديمة والمسجد الأقصى أمام المقدسيين منذ منتصف ليلة الخميس- الجمعة، حيث تقوم بمنع كل من يقصد الدخول للبلدة القديمة من الرجال دون 50 عاما، في حين تسمح للنساء بالدخول دون أي قيود تذكر.
كما لم تتورع عن الاعتداء بالهراوات والقنابل الغازية على الفلسطينيين نساء ورجالا وشيوخا وأطفالا في شارع صلاح الدين وبقية شوارع المدينة. كل ذلك مر دون احتجاجات في إسرائيل على ما ترتكبه حكومتها عدا أصوات قليلة أبرزها حزب «ميرتس» الصهيوني اليساري الذي حذرت رئيسته زهافا غالؤون من اللعب بالنار بإبقاء الاحتلال على قراره بتثبيت بوابات الكترونية على مداخل الحرم. وقالت غالؤون في بيانها إن نتنياهو يعلم وجود احتمال كبير بانفجار برميل بارود من شأنه التسبب بفوضى لا أحد يقوى على ضبطها.
واتهمت غالؤون نتنياهو بتغليب الحسابات الانتخابية على الأمن بالسعي لتحقيق مكاسب شعبوية في ظل مزاودات من أحزاب اليمين. وذكرت في بيانها أن الجيش والمخابرات العامة أوصيا بإلغاء البوابات الالكترونية لأنها تحدث ضررا كبيرا للأمن بدلا من خدمته. ولا شك أن الصراع يتجه للمزيد من التعقيد ليس فقط بسبب الأطماع في القدس، بل نتيجة تديينه وهيمنة الخطاب الديني في طرفي الصراع ولأن حكومة الاحتلال تخلط الأوراق وحسابات ساستها داخلية وحزبية أيضا.
وديع عواودة