نجح الرئيس بوتفليقة وهو في نهــــاية عهـــدته في القيام بنوع من التحييد للمؤسسة العسكرية وذراعها السياسي، مخابرات الجيـــــش، وضع ســـمح له بسيطرة شبه كلية، على القرار الســـياسي كشخص، من دون منافسة فعلية، من قبل مؤسسات القرار السياسي الأخرى، كالبرلمان والحكومة التي تعودت على القـــيام بدور باهت، طول مدة حكمه الطــــويلة، حتى وهو في حالة شبه عجز، عن القيام بمهامه الكثيرة التي استحوذ عليها، بعد صراع مرير مع المؤسسة العسكرية.
وضع كان الرئيس بوتفليقة قد ورثه عند وصوله للسلطة في 1999.
بوتفليقة ومن ورائه النظام السياسي الذي بناه وطوره لمدة عشرين سنة تقريبا، لم يتوقع انه سيكون في مواجهة فاعل سياسي جديد، اسمه رجال الأعمال، الذين ظهروا بقوة، هذه السنوات الأخيرة وكلهم عزم على القيام بأدوار سياسية، بعد أن قاموا بتراكم مالي سريع وضخم، اعتمادا على سيرورة طويلة، تحول بموجبها المال العام إلى مال خاص في الجزائر. فرجل الأعمال هو ابن هذا النظام الاقتصادي والسياسي نفسه الذي رعاه وطوره بوتفليقة، اعتمد عليه في البقاء في السلطة، وكسب الرهانات الانتخابية المختلفة التي دخل معتركها، رغم تنافسيتها الضعيفة وشكليتها.
رجل الأعمال الجزائري اعتمد على البنك العمومي والاستثمارات العامة، التي باشرتها الدولة الريعية وهي في حالة تخمة مالية، قل نظيرها في التاريخ الاقتصادي الجزائري، اعتمادا على ما وفرته المحروقات من دخل، وهي تسجل أعلى الأسعار. فقد خرج رجل الأعمال بسرعة، من رحم الدولة وتربى بين أحضانها، على غرار ما عرف في تجارب عربية مشابهة، اختصرت في مفهوم «رأسمالية المحاسيب»، التي تكلمت عنها الدراسات في حالتي مصر وتونس. حالات يمكن إضافة لها الحالة المغربية، بعد أن ظهر الكثير من علامات التمخزن على الحالة الجزائرية، التي تعني، أن لا فصل بين المجالين الاقتصادي والسياسي، تحت رعاية القصر الرئاسي الذي يتحكم في كل قواعد اللعبة وخيوطها. لدرجة يصعب على الملاحظ ان يفرق فيها، بين رجل الأعمال والسياسي والنقابي، فالكل يقوم بالأدوار نفسها ويؤدي الوظائف نفسها، كما بينته حالات الفساد الكثيرة، التي زكمت رائحتها أنوف الجزائريين في العقدين الأخيرين. يبقى التستر عليها هو القاعدة.
الأزمة التي نشبت بين رجل الأعمال، علي حداد «شهبندر رجال الأعمال» في الجزائر والوزير الأول عبد المجيد تبون، في المدة الأخيرة، يمكن ان تكون مفتاحا سياسيا مهما لقراءة التحولات التي يعيشها النظام السياسي الجزائري في علاقته بالاقتصادي وهو يعيش عملية انتقال، غير شفافة، في نهاية عهدة الرئيس بوتفليقة. فقد طور الرجل بسرعة، كغيره من الكثير من رجال الأعمال الآخرين (يسعد ربراب. محيي الدين طكحوت وغيرهما كثير)، استراتيجية متعددة الوسائل والأهداف، اعتمادا على قوته الاقتصادية وقربه من مراكز القرار السياسي، للاتجاه نحو بناء امبراطورية إعلامية (قناتين وجريدتين يوميتين)، زيادة على الحضور الحزبي والجمعوي، شمل السيطرة على أكبر النوادي الرياضية العاصمية. نواد رياضية يحسب لها ألف حساب من الناحية السياسية، نظرا للقاعدة الشبابية لكرة القدم في الجزائر.
بعد أن تحول الملعب إلى بارومتر سياسي، يقيس شعبية الرجال والسياسات. استراتيجية مالية، سياسية وإعلامية، كان ينتظر مع الوقت، أن تخيف أكثر من طرف حليف ومنافس، خاصـــــة في الحالة الجزائرية التي تعود فيها صاحب القرار السياسي على رفض أي تعددية، على مستوى اتخاذ القرار السياسي أو مشاركة في صناعته، كما أعطى الانطباع لسنوات، رجل الأعمال علي حداد.
نحن إذن أمام استراتيجيات هيمنة من قبل فاعل سياسي ومالي جديد على المسرح السياسي، يمكن أن يطالب بنوع من الاستقلالية مع الوقت، مازالت مرفوضة بقوة من قبل النخب السياسية البيروقراطية المسيطرة على دواليب الدولة. يمكن ان يدفع ثمنها هذا الجيل الأول من رجال الاعمال، كما حصل مع عبد المؤمن خليفة ويسعد ربراب وغيرهما، ممن هم على القائمة الطويلة. حالة تشبه النموذج الروسي، الذي ظهر فيه بوتين لرد الأمور الى «نصابها «، بعد ظهور علامات التغول، على الأثرياء الروس الجدد، بطموحاتهم القيصرية على حساب الدولة الروسية العميقة.
تحصل كل هذه، التي ابتعدت عمليا، حتى لو كان ذلك بالتدريج، على قواعدها الشعبية، كما يظهر بجلاء من السياسات الاقتصادية المتخذة منذ سنوات، والطلاق الذي عبرت عنه آخر انتخابات تشريعية. تغيير في طابع الدولة الاجتماعي لن يكون سهلا ومن دون اهتزازات، في الحالة الجزائرية، لتجذر الثقافة السياسية الشعبية وعمقها التاريخي.
نحن اذن امام صراع سياسي بأدوات متعددة اقتصادية وإعلامية، غير شفاف، يبقى المواطن بعيدا عنه، ينظر له كصراع بين أبناء المخزن نفسه، رغم ان نتائج حسمه على المديين، المتوسط والطويل، ستؤثر لا محالة ليس على حياته فقط، بل على شكل جزائر المستقبل، كدولة ومجتمع، في مرحلة تاريخية لم يعد فيها أي صراع داخلي، مهما كان، بعيدا عن امتداداته الدولية، في جزائر يتم تقرير مصيرها، بين شلل مخزنية، صغيرة العدد.
٭ كاتب جزائري
ناصر جابي