جاءت التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل لتنقل التفاعل بين المرسل والمتلقي من المستوى البسيط، الذي كان يتحقق مع الوسائط القديمة إلى مستوى أكثر تطورا، قوامه المشاركة الفعالة بينهما. لن يتساوى بذلك طرفا التواصل بصورة مطلقة، ولكن يصبح لكل منهما، بحسب موقعه في العملية التواصلية، دور إيجابي يتحدد من خلال التفاعل الذي يمكن أن ينقل كل طرف من موقع إلى آخر يسمح بتبادل الأدوار وتناقل المعلومات بشكل متوازن ومتواز.
كان الفضاء الشبكي في البداية متمركزا على تقديم المحتويات، من خلال منصة الشبكة، فأدى ذلك إلى ظهور المواقع المختلفة. لكنه مع نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة (2004) سيظهر الجيل الثاني من هذا الفضاء ( web 2.0) الذي سيتيح منصات وبرمجيات جديدة تسمح بتجاوز تقديم المحتويات بين المرسل والمتلقي، إلى إمكان التشارك والتبادل بين المستعملين في تبادل المعلومات وتقديم المحتويات. نجم عن هذا التطور بروز المدونات والمنتديات ووسائط التواصل الاجتماعي، المبنية على التفاعل في نقل أنواع المعلومات أيا كانت العلامات التي توظفها. كما أن تعدد المنصات سمح لأي كان بأن يكون له موقع في الفضاء الشبكي، يسمح له بتقديم نفسه وما يمتلكه من معلومات يشرك بها غيره (فيسبوك، تويتر، يوتيوب). وصار الكل مندمجا في هذا الفضاء يتداول المعلومات ويتناقلها في أي وقت ومع من يشاء.
لكل هذه الاعتبارات يمكن وسم العصر الذي نعيش فيه، بأنه العصر الرقمي، الذي يمكن عده ثورة حقيقية في مجال التواصل والتفاعل بين الناس. إن بساطة الجيل الثاني من منصات الفضاء الشبكي، قلب العلاقات وجعلها متاحة ومتيسرة للجميع، فلم يبق بالإمكان الحديث فقط عن مرسل يتوجه إلى متلق، ولكن صار أي متلق قابلا لأن يتحول إلى مرسل أيضا، فإلى أي حد يمكن اعتبار هذا التحول منتجا في تعاملنا نحن العرب مع الفضاء الشبكي؟
لقد اتسعت دائرة استعمال الفضاء الشبكي بواسطة الكمبيوترات والهواتف الذكية في العالم العربي. وصارت وسائط التواصل الاجتماعي متاحة للجميع، لا فرق في ذلك بين من عنده إمكانيات مادية ومن لا يمتلكها. صار الهاتف جزءا من حياة الناس كيفما كان مستواهم الجنسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، بل إن ربات البيوت في القرى والبوادي أصبح بإمكانهن تداول وتناقل المعلومات والانخراط في مجموعات للتواصل والتفاعل. وفي كل الفضاءات، في الشوارع والمقاهي ومحطات السفر، صار الكل منغمسا في الفضاء الافتراضي. وحتى داخل البيت، ورغم تشغيل التلفاز الذي لا يتابعه أحد؟ لن ترى أي واحد إلا «متصلا» بالفضاء الشبكي، و»منقطعا» عن محيطه الاجتماعي. إنه الاستهلاك الرقمي.
الاستهلاك الرقمي بحث عن فضاء آخر (الافتراضي) لإثبات الذات، حيث يصبح كل فرد متلقيا ـ مرسلا. وفي هذه العملية يبدو وكأنه يحقق ذاته التي لا يعمل، أو لا يقدر على تحقيقها في العالم الواقعي لإكراهات اجتماعية ـ ثقافية. إن الواقع يفرض عليه أن يظل «متلقيا». وحين يلقى، بتحوله إلى «مرسل»، من يشترك ويتبادل معه يستشعر قيمته المفقودة في الواقع، فالذي يسب أو يلعن أو يعبر عن إعجابه أو يعلق أو يشترك في نقل محتوى يحس أن له وجودا، وأنه منخرط في «العالم».
لهذا الاعتبار نرى أن الاستهلاك الرقمي محاولة للانخراط في العالم الافتراضي، وإن تم ذلك من خلال الانفصال عن العالم الواقعي، بل إن هذا الانفصال هو الذي يؤكد ذلك الانخراط. وبقدر ما كان التفاعل الذي تحقق مع الجيل الثاني يتيح إمكانية التواصل بين الناس صار مدعاة للانفصال، وكأنه جاء ليكرس «الفردانية»، والانعزال الذاتي، بدل أن يكون تأكيدا للبعد الجماعي، وتقريب التواصل بين الأفراد والجماعات. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: فضاء التواصل يتحول إلى فضاء من أجل تواصل قائم على الانفصال؟ ومن أجل تأكيد الاتصال علينا ممارسة الانفصال.
علاقة الوصل والفصل بين الفضاءين الواقعي والافتراضي في ممارستنا العربية، وفي متخيلنا الجماعي، ليست سوى تعبير عن خلل في العلاقات التواصلية بين الأفراد والجماعات. لهذا الخلل جذور في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، ولذلك كان الفضاء الشبكي تعبيرا عن حل «مفترض» لمشاكل قائمة واقعيا. لكن هذا الحل المفترض يجعل علاقتنا بهذا الفضاء محدودة ومقتصرة على الرغبة في «إثبات» الذات في عالم لا يعترف بها. وليس إدمان الانخراط في هذا الفضاء في أوقات الفراغ، وحتى العمل، سوى تأكيد لذلك، إنه الإدمان الدال على الاستهلاك.
إن الوظائف التي يحققها جيل المنصات الجديدة في الفضاء الشبكي لا يقتصر على الطريقة التي «نستهلك» بها هذه البرمجيات والوسائط المتفاعلة. لقد تحول كل منا، بشكل أو بآخر، إلى مرسل ومتلق في الوقت نفسه. لكن ماذا نرسل؟ وماذا نتلقى؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي لم نطرحه على أنفسنا من أجل أن نكون «فاعلين» و»متفاعلين» في الفضاء الشبكي؟ لا بأس من تبادل الصور، والنصوص، والفيديوهات للإمتاع والمؤانسة. ولا ضير في تداول التهاني والتعازي والجمعات المباركة، الإنتاج الرقمي انخراط في تطوير الثقافة العربية رقميا، وإلا فهو استهلاك.
٭ كاتب مغربي
سعيد يقطين