من غير المتيسر ترجمة مصطلح «Clean Break» ولكن للتقريب فالأمر يتعلق بنظام تنظيف المخلفات بشكل أو بآخر، فالكلمة توحي بالقضاء على حالة من القذارة أو تطهير مكان متسخ، ولذلك كان من المستغرب أن تحمل ورقة سياسية بحثية صادرة عن معهد الدراسات السياسية والاستراتيجية المتقدمة بواشنطن هذه التسمية، ولكن أن يكون أحد الباحثين في هذه الورقة هو رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، فذلك يكفي لتبرير إقحام المصطلح في عالم السياسة، ويبدو أن فوز نتنياهو برئاسة الوزراء في السنة التي صدرت فيها الورقة، يجعلها ذات أهمية كبيرة في تفهم طريقة تفكيره.
حقق نتنياهو قفزة أوسع مما كان يطمح به في ذلك الوقت، فالعراق وسوريا اللتان كانتا تشكلان مصدراً أساسياً لمخاوفه، غارقتان في مشكلات جوهرية وبنيوية تعيق أي دور محتمل لهما في المدى المنظور وحتى المتوسط، كما أن رغبته في عدم الخضوع لصفقة سلام عربية واحدة وشاملة، وتفضيله التعامل مع كل دولة على حدة لم يعد فقط أمراً ممكناً، بل أصبحت مغازلة إسرائيل أحد أوجه التنافس بين الدول العربية، ولذلك فإن نتنياهو اليوم في وضع ممتاز بجميع المقاييس، ولا يبدو أن منافساً محتملاً يمكن أن يزيحه عن موقعه في قيادة اسرائيل، كما أنه استطاع أن يضمن موقعاً مؤثراً في التاريخ الاسرائيلي القصير، يجعله يتجاوز غولدا مائير ومناحم بيغن في مجمل الخدمات التي قدمها لمستقبل اسرائيل.
تتبقى في الورقة مجموعة أكثر خطورة من النوايا التي تجد أمامها أرضاً ممهدة، لتتحول إلى وقائع تؤثر في المنطقة ككل، فإحياء الصهيونية أو إعادة بنائها أو تجديد شبابها كانت ذات حضور في الورقة، وعلى الرغم من الاختلافات الهشة في المعنى بين العبارات، الثالثة المتعلقة ببعث جديد للصهيونية، إلا أن حضورها من جديد أمر من شأنه أن يثير الانتباه للمرحلة المقبلة من المخططات الاسرائيلية في المنطقة.
يربط نتنياهو بين تجديد الصهيونية من جهة والإصلاح الاقتصادي من جهة أخرى، وأخذاً في الاعتبار المواصفات الحالية للاقتصاد الاسرائيلي فإن تطويره يحتاج إلى مزيد من التوسع، وإلى اطمئنان كامل تجاه أمن اسرائيل يخفف من حدة نفقاتها العسكرية، وهما أمران يرتبطان جوهرياً بالدول العربية في محيط اسرائيل، وما وراءه، فالتوسع في مناطق تمتلك الثروات الطبيعية والعنصر البشري أمر ضروري من أجل طرح اسرائيل بوصفها الغول الاقتصادي في منطقة المتوسط، وتقاطع القارات الثلاث التي تشكل العالم القديم، وذلك يتطلب نمطاً جديداً من السلوك الاستعماري، يعتمد على حلفاء داخليين لإسرائيل في الأنظمة العربية، كما أن تخفيض الانفاق العسكري يستلزم الإبقاء على الدول العربية في حالة التمزق الطائفي وتفكيك هويتها في تفاصيل فسيفساء الطوائف والمذاهب الدينية والسياسية، وهو ما بدأت معالمه تظهر في الأفق بوضوح.
نتنياهو لا يؤمن بإسرائيل في حدودها الراهنة، لا يريدها مجرد غيتو أو قلعة، ولا يحتاج لمزيد من الشعارات التي أنتجتها تعاونيات الكيبوتز الاشتراكية الطابع، كما أنه يحتقر بكل تأكيد النزعة البطولية الغريبة عن الشخصية اليهودية التقليدية، التي حاولت دولة (اسرائيل) انتاجها مع بن غوريون، الذي لا يراه من يقفون في اليمين الاسرائيلي سوى صعلوك من الماضي، يتوجب التخلص من إرثه بعد أن أدى دوره لمصلحة الصهيونية باستقطاب الرعاع وزرعهم في التجربة الاستيطانية الاسرائيلية، كل ذلك لا يعبر عن نتنياهو الذي يرى اسرائيل غير مضطرة لأن تخسر جندياً واحداً، ولذلك لم يسجل على نتنياهو خوضه لأي مغامرة عسكرية بالطريقة المجانية التي أقدم عليها شمعون بيريز في عملية «عناقيد الغضب» 1996، أو الحرب على غزة سنة 2008 التي وجدها ايهود باراك فرصة مناسبة لإعادة انتاج نفسه، فحروب نتنياهو كانت تخدم أهدافه السياسية وترتبط بها بصورة وثيقة، كما أنها كانت تلقى في ملابساتها الغامضة وتداخل معطياتها فرصة له من أجل أن يؤدي دور الضحية أمام الغرب.
الصهيونية على طريقة نتنياهو تتبنى القيم الغربية، ويقدم نفسه لا بوصفه مجرد وكيل للغرب الاستعماري يحتجز حيزاً جغرافياً عميقاً استراتيجياً في قلب المنطقة المركزية للعالم القديم، ولكنه يطرح نفسه شريكاً لترويج ورعاية وصيانة القيم الغربية في المنطقة، ويريد لإسرائيل أن تمثل السوق الأساسية للاقتصاد والثقافة معاً على الطريقة الأمريكية التقليدية، بحيث يستطيع أن يسيطر على روايات التاريخ والمستقبل معاً، ولذلك أخذ يعمل على تضخيم المخاطر الايرانية لتصبح عاملاً يمكنه أن يوحد المنطقة في مواجهة عدو مشترك من شأنه أن يجعلها تتناسى خلافاتها، كما يفترض الأمريكيون أن العالم سيقف جميعه معهم عندما تواجه الأرض غزواً من كائنات فضائية.
بنهاية فيلم» يوم الاستقلال الأمريكي» بانتصار الأرض على الغزاة الفضائيين كانت قاعات السينما تضج بالتصفيق، بما يعبر عن نجاح صناع الفيلم بأن المشاهدين صدقوا، ولو لجزء صغير من الثانية وجود هؤلاء الغزاة فعلاً، ومع ذلك يجب أن يتعلم مخرج الفيلم رولان إيميريش من نتنياهو، الذي تمكن من تثبيت فكرة الخطر الايراني ووجود المصلحة الحيوية مع الدول العربية لسنوات حتى الآن، بالمناسبة عرض الفيلم أيضاً سنة 1996 وبعد أيام من وصول نتنياهو لسدة الحكم.
أن تشكل ايران بوضعها الراهن خطراً على العرب بمعنى الإزاحة أو الإفناء، أمر مستبعد مثل وجود غزو الكائنات الفضائية، ولكن ما تقترفه اسرائيل من بلطجة وإلغاء يتحول إلى واقع يومي ما يفتأ يلقي ببصماته على مسار الأحداث في المنطقة، وحتى لو دخلت الدول العربية حرباً مع ايران فإنها ستنتهي في غضون فترة لا تتجاوز عامين، لتفضي لوضعية اللاغالب واللامغلوب بعد مئات الآلاف من الخسائر البشرية، أما الحرب مع اسرائيل فإنها مستمرة بصمت وخسائرها فادحة للغاية ولا تتوقف اطلاقاً على خسائر بشرية محدودة مهما كانت أعدادها كبيرة، فالصهيونية بنسخة نتنياهو تسعى لأن توقع العرب في فخاخ الأسر الكامل لتحولهم إلى وقود من أجل اسرائيل المهيمنة التي ستقفز مع صهيونيتها الجديدة من الدور الوظيفي إلى الموقع القيادي، الذي يجعلها تستقطب العالم لسوقها الرئيسي والأزقة المتفرعة عنه على امتداد ما يسمى بالمجال الحيوي للعالم العربي.
العلاقة مع اسرائيل تمضي إلى مصائر مرعبة بالنسبة للعرب، ونتنياهو يرى نفسه الرجل الذي يمكن أن يزاحم بقوته سادة الكرملين والبيت الأبيض، فالجميع يحاول استرضاءه من مرشحي الرئاسة الأمريكية، الذين يتسابقون لتحظى هداياهم بقبوله، إلى بوتين المرعب الذي شاهده العالم وهو يواجه مقابلة مهينة من (بيبي) في منزل الأخير الذي لم يتعطف بمجرد الوقوف للسلام على القيصر الروسي الجديد.
كاتب أردني
سامح المحاريق