جنرالات مصر يقتلون الإخوان ويشنقون الديمقراطية

حجم الخط
0

النشطاء البحرانيون الذين دعوا للتمرد في 14 اغسطس ضد نظام الحكم في بلدهم قد ادركوا بواقعية ان شل الحياة العامة والاحتجاجات الكثيرة التي حدثت لن تحظى باهتمام اعلامي كبير مقارنة بالجريمة الكبرى التي ارتكبها جنرالات مصر ضد المعتصمين السلميين المعارضين للانقلاب الذي قاموا به. فما جرى في ذلك اليوم يختلف شكلا وجوهرا ومعنى عن كافة جرائم انظمة الاستبداد التي تحكم بلدان العالم العربي.
واصبح واضحا ان الهدف من فتح النيران على المعارضين السلميين لم يهدف لتفريقهم وانهاء اعتصامهم فحسب، بل لقتل اكبر عدد ممكن منهم، وكأنهم أعداء جاؤوا من بلد آخر لاحتلال ساحتي مسجد رابعة العدوية والنهضة. وفي ظل احكام الطوارئ التي فرضها العسكريون على مصر تواترت الانباء عن احتمال اطلاق سراح حسني مبارك من السجن. وترددت ايضا انباء عن احتمال تنصيب نجله،جمال، رئيسا، لتنتهي بذلك اكبر ثورة عربية في العصر الحديث، وعودة الاستبداد والظلام والديكتاتورية الى العالم العربي. فما الرسالة التي اراد عبد الفتاح السيسي، قائد الجيش المصري، ابصالها لمعارضي انقلابه وللعالم؟ وهل اتخذ القرار مع جنرالاته فحسب؟ ام بدفع من احد داخل مصر وخارجها؟ الامر الذي اتضح ان الحكومة التي شكلها العسكر ربما اطلعت على قرار تفريق المعتصمين وليس على تفصيلات العملية العسكرية التي اودت بحياة ما يقرب من الف من جماعة الاخوان المسلمين والمتعاطفين معهم. ولذلك جاءت استقالة الدكتور محمد البرادعي، نائب رئيس الوزراء ومن ثم مغادرته مصر، احتجاجا على القرار العسكري وجريمة القتل، لتؤكد ان لدى عسكر مصر اجندة اخرى تختلف عما لدى النشطاء المدنيين الذين عارضوا حكم الاخوان، وشاركوا في الاطاحة بالرئيس المنتخب، محمد مرسي. وقد ادرك الكثيرون من النشطاء خطأ قرارهم بدعم الجنرالات، فالعسكريون والديمقراطية لا يجتمعان، والعقلية العسكرية حادة وصدامية ومتشددة وحاسمة لا تقبل النقاش، لا تنسجم مع ثقافة التعددية والحوار والتفاهم. فالسلاح هو لغة العسكر، بينما الكلمة هي سلاح الديمقراطية. ولذلك فما ان انقلب عسكريو الجزائر في 1992على العملية الديمقراطية حتى سالت الدماء انهارا ودخلت البلاد نفقا أسود استمر اكثر من عشرة اعوام وحصد ارواح اكثر من 150 الف انسان. فمن يسعى للديمقراطية مطالب بوعي مفاهيمها وقيمها، واستيعاب ضرورة عدم السماح للعسكريين بممارسة السياسة، لان مهتهم حماية البلدان من الاعتداءات الخارجية، وليس ادارة شؤون البلاد الداخلية او الخارجية.
مرة اخرى يعود المشهد المصري لحالة اكثر استقطابا مما كانت عليه في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، عندما كان زعماء الاخوان المسلمين، ومن بينهم الرئيس مرسي، يرزحون في السجون بعد اصدار المحاكم العسكرية قراراتها الظالمة ضدهم بسبب معارضتهم استبداد مبارك وهيمنة العسكر. وقد يبدو للبعض ان العسكريين حسموا المعركة السياسية بشكل نهائي، ولكن الامر المؤكد ان قرارهم تصفية معارضيهم بالطريقة الوحشية التي مارسوها ستؤدي، في وقت غير بعيد، لانهاء الدور السياسي للمؤسسة العسكرية المصرية. وبعد ما ارتكبوه من مجازر لن يكون هناك حل سياسي الا اذا استثنى العسكريين من العمل السياسي واجبرهم على العودة للثكنات، والتخلي عن الاطماع السياسية لدى الجنرالات. فالجيش مؤسسة وطنية يجب ان تحظى برعاية الدولة وتنميتها بشكل يلبي الاحتياجات الامنية ويوفر الهيبة اللازمة للحكم. ولكن من الخطأ الكبير السماح للعسكريين ممارسة السياسة والتدخل فيها بالشكل الذي يمارسونه في الدول التي عانت من الاستبداد مثل تركيا وباكستان والجزائر ومصر. فالعقلية العسكرية استئصالية بجدارة، خصوصا في البلدان المحكومة بالاستبداد.
والديكتاتور لا يؤمن الا بمنطق القوة الذي يوفره العسكريون، ولذلك يصبح اكثر اعتمادا عليهم، ويقربهم حتى يصبحوا اعوانه ومستشاريه، ويزينون له الاستبداد حتى تتعمق الازمة بينه وبين شعبه فتحدث الازمات وتزداد المشاكل السياسية تعقيدا. وقد كان لقوى الثورة المضادة مجتمعة دور اساسي في توفير الارضية المناسبة لحراك شعبي ضد حكم الاخوان، بالمبالغة في الحديث عن ‘أخطائهم’ وتصوير ادائهم بـ ‘انه كارثة لمصر’. ومن المهازل توجيه تهمة لرئيس مصر، الدكتور محمد مرسي، بـ ‘التخابر مع جهة اجنبية’ يقصد بها حركة حماس. انه استسخاف لمصر وشعبها وعقولها وكرامتها. كما استغلت المشاعر الغاضبة لدى بعض الساسة والنشطاء بسب الخلاف الايديولوجي مع الاخوان وما يمثلونه من مشروع يتبنى ‘الاسلام السياسي’، فاستدرجوا لمشروع قوى الثورة المضادة بالاجهاز على الاخوان واسقاط نظامهم. وقد التفت بعضهم الى هذه الخدعة وسعوا لتصحيح موقفهم،كما فعل الدكتور محمد البرادعي الذي سفكت دماء مئات المصريين باسم الحكومة التي يمارس دور نائب رئيس وزرائها.
مصر ما بعد المجزرة التي ارتكبها العسكريون بزعامة عبد الفتاح السيسي، الى اين؟ لقد انطلقت الدعوات للمصالحة الوطنية، فهل يمكن ذلك؟ لقد كانت الدعوة غير مؤهلة للنجاح في الاسابيع الخمسة التي اعقبت الانقلاب العسكري ضد الرئيس مرسي والاخوان الذين أصروا على ان اية مصالحة غير ممكنة الا بعد عودة ‘الرئيس الشرعي’ حسب قولهم. فهل تحسنت حظوظ المصالحة بعد مجزرة الاربعاء الاسود؟ فقد بلغ شهداء الاخوان قبلها 300 شخص، وتضاعف العدد بعد ذلك. فما أفق المصالحة المزعومة؟ ما ارضيتها؟ وما شروطها؟ الامر المؤكد ان مستقبل مصر القريب لن ينطلق على اساس المصالحة بين الطرفين. خصوصا ان العسكريين يواصلون سياسات القمع واستخدام القوة ضد معارضيهم. ومن المتوقع ان تصل ايديهم الى السياسيين من غير الاخوان. وحتى البرادعي لن يكون بمأمن من الاعتقال اذا لم يستجب لما يريدون، خصوصا بعد استقالته من منصبه وما نجم عنه من اهانة للعسكريين واضعاف منطقهم وموقفهم.
الغربيون دعوا للمصالحة بعد شجب المجزرة، ولكنهم لم يتخذوا مواقف جادة ضد الجيش الذي انقلب على الشرعية الشعبية. فلم يطرد اي من سفرائهم من العواصم الغربية، ولم تصدر قرارات حاسمة بوقف الدعم الغربي للمؤسسة العسكرية. كما لم يتحدث احد من زعماء الغرب عن الجرائم ضد الانسانية التي ارتكبها العسكريون. انه موقف غير متوازن ولا يتسم بشيء من الذوق او المبدئية، خصوصا مع إصرار العسكريين على الالتزام بأحكام الطوارىء وعدم التخلي عنها في المستقبل القريب. واشنطن ولندن، على وجه الخصوص، لم تنأيا بمواقفهما عن القرار العسكري ضد الاخوان المسلمين. كما ان قوى الثورة المضادة لم تقطف اجنحتها او تحتوى اطماعها. وفي الوقت نفسه فان الاخوان المسلمين ما يزالون تحت تأثير الصدمة المفاجئة التي لم يتوقع احد حدوثها بهذه القسوة والشراسة.
الامر المؤكد ان هذه الجماعة اصبحت في مواجهة مفتوحة مع العسكريين الذين كرروا تجربة الجزائر وبدأوا حمامات الدم في ارض مصر التي عرف اهلها بالهدوء والنزعة للسلام ورفض العنف. مع ذلك فمن المتوقع ان يقوم العسكريون وقوى الثورة المضادة باجراءات وخطط تهدف لتشويه صورة الاخوان واظهارهم بعدم الصلاحية للمشاركة في العملية السياسية بسبب مواقفهم ازاء القضايا التي يختلف المجتمع المصري ازاءها، كدور المرأة في الفضاء السياسي العام، والعلاقات مع الكيان الاسرائيلي وقوى الثورة المضادة، ومبدأ الانقضاض على الحكم واسقاط الرئيس المخلوع.
ثمة مؤشرات سلبية اكثر إيلاما يمكن استشرافها من الانقلاب العسكري على الكيان السياسي الناجم عن تلك الانتخابات. اول هذه المؤشرات ان تجربة الانقلاب ضد الشرعية لن ينحصر بمصر، بل ستلحقها تونس ايضا، خصوصا ان بعض قادتها لم يستوعبوا بعد الدرس الاساسي من التجربة المصرية متمثلا برفض اسلحة قوى الثورة المضادة وفي مقدمتها السلاح الطائفي. وما يزال بعض قادتها مرتهنا لذلك المنطق الذي روجه اعداء الثورة والتغيير لافشالهما. ولن يكون الوضع الليبي او المغربي او السوداني او العراقي بمنأى عن خطط الانقلاب ضد المشروع الاسلامي.
ويكفي ما فعلته السعودية مؤخرا لتوضيح حقيقة موقفها ازاء الدول العربية والاسلامية الاخرى. فقد منعت طائرة الرئيس السوداني، بعد اسقاط الرئيس مرسي، من عبور المجال الجوي المصري بينما كان متوجها الى ايران لحضور حفل تنصيب الرئيس المنتخب الدكتور حسن روحاني. ولم تكن السعودية لتقدم على تلك الخطوة لو لم يحدث الانقلاب العسكري في مصر، الذي شجعها لاتخاذ قرارات ومواقف غير معتادة. ثاني المؤشرات: ان الغرب تواطأ مع الانقلابيين الذين كانوا على علم بخطتهم قبل تنفيذها، ولم يتخذ موقفا آخر بعد تنفيذ الانقلاب ثم ارتكاب المجزرة برغم بعض التصريحات التي تطلق لاحتواء الاصوات المناوئة للانقلاب العسكري.
ثالثا: ان الغربيين اظهروا في البداية استنكارا، ولكنهم لم يشجبوا الانقلاب العسكري ولم يطالبوا باعادة الرئيس المنتخب الذي خلعه العسكريون، واكتفوا بالتصريحات الجوفاء التي لم يصاحبها قرارات بوقف التعاون مع العسكريين الذين انقلبوا على السلطة الشرعية. رابعها: تخاذل الموقف الشعبي العربي ازاء الانقلاب العسكري والمجزرة التي لحقت بالاخوان. كما لوحظ غياب مواقف الاخوان المسلمين في بقية البلدان العربية التي تشجب الانقلاب والمجزرة.
فالعديد من هذه التنظيمات يخشى ردة فعل سلبية من انظمة الحكم التي يعيش بكنفها والتي باركت الانقلاب وربما شاركت فيه. خامسا: توقف العقل العربي عن سبر اغوار الانقلاب وما يعنيه، واساليبه التي استخدم الطائفية فيها سلاحا ضد الرأي العام لوقف التعاطف مع الاخوان المصريين الذين تجاوز عدد شهدائهم في بضعة ايام جميع شهداء الثورة في 18 يوما. سادسا: ان ثمة توافقا غربيا عربيا على التصدي لمشروع الاسلام السياسي وان سقوط الاخوان اضعف وهج التجربة الاسلامية واعاد الاوضاع الى ما كانت عليه قبل ثورات الربيع العربي.
ان من الخطأ الاستراتيجي الكبير الاعتقاد بامكان حسم مشكلة مصر بانقلاب عسكري دموي ادى واعتقال الرئيس المنتخب. كما ان صمت طلائع التغيير وشباب الثورات عما حدث في مصر سيشجع انظمة بلدانهم على تكرار تجربة الجيش المصري خصوصا مع غياب الموقف الشعبي الموحد بين ابناء دول العالم العربي.
الامر المؤكد ان الشرق الاوسط لن يكون مستقبلا كما كان ماضيا من حيث الاستقرار والامن وتوحد الشعوب ورفض التمزيق والتفريق بين ابنائه. الامر الثاني ان قوى الثورة المضادة استعجلت الاحتفاء بسقوط حكم الاخوان، واتضح لهم ان العسكر المدعومين باجهزة الامن الغربية، فعلوا ذلك ضمن خطة اخرى تهدف لسلب بلدان المنطقة استقلالها وامنها، وهما ضروريان لوأد الفتنة وكسر شوكة المتعصبين من الطرفين، والحماس لتفعيل مشروع اسلامي حضاري يوسع آفاقه حتى يصبح شريكا سياسيا في العالم. ولعل ما حدث في القاهرة في الرابع عشر من اغسطس بداية انطلاق آخر لثورات الربيع العربي لاكمال مشوار التغيير الذي لم يكتمل بعد. فمن المرجح ان تتجه الشعوب العربية والاسلامية لجمع كلمتها واخماد اصوات الفتنة والعودة الى حالة الوئام والحب حسب التعليمات الالهية للمسلمين والبشر عامة. فالشعوب العربية امام خيارين: فاما القبول بانصاف حلول مع بقاء انظمة الاستبداد حاكمة، او التحرك لاحداث تغييرات اوسع في اغلب الدول العربية، على غرار ثورات الربيع العربي، وما احدثته من تغيير في النفسية العربية. الاخوان هنا مطالبون برفع شعار وحدة المسلمين ووحدة مصيرهم وموقفهم ازاء التحديات الخطيرة والمشروع الاسلامي الذي قامت تلك الوجودات بهدف تحقيقه في المجتمعات العربية، واخماد الاصوات النشاز التي دعمتها قوى الثورة المضادة واحدثت شروخا في جسد الامة مكنت اعداءها من التأثير عليها. فالدماء التي اريقت انهارا في شوارع القاهرة لن تجف بسرعة، بل ستحاصر نظام العسكر وتسقطه عما قريب لانه حكم عسكري دموي تصفوي استئصالي، لا يقبل بتقاسم السلطة مع احد، بل يصر على انفصاله الكامل عن الشعب واستئثاره بالحكم بدعم القوى المضادة للثورة. فمنذ الانقلاب سالت انهار الدماء وفتحت الزنزانات وقتل السجناء في غرف التعذيب، وصمت الجميع، بمن فيهم الغرب الذي طالما ادعى ترويجه الديمقراطية وحمايته حقوق الانسان. هذه المرة حول العسكر مصر الى زنزانة سوداء مظلمة معتمة، تنضح بالدماء وتسحق فيها الكرامة ويمحق الاخيار، بينما اصبح صمت علماء البلاط وفقهاء السلطان وتملق النخب الليبرالية مشجعا لقوى الثورة المضادة ودافعا لها لاستهداف الربيع العربي ونحره بدم بارد على مشرحة الحرية والكرامة. الثورة المضادة تعتقل محمد مرسي ويجدد المدعي العام يوم امس حبسه 15 يوما اخرى، بينما تستعد مصر للافراج عن حسني مبارك، وربما تنصيب نجله، جمال، رئيسا، أليست هذه هي الثورة المضادة التي شارك الكثيرون في دعمها ضد حكم الاخوان؟ ولكن الثورة، برغم ذلك، لم تجهض، والشعوب لم تسحق، والعسكر لم ينتصروا، واساليبهم لن تحقق مبتغاها، وربهم فوقهم جميعا يمهلهم ليزدادوا إثما، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية