أستعير تلك الكلمة من صديقي وأخي الصحافي والمثقف الموسوعي والإنسان خالد السرجاني، الذي رحل مبكراً عن عالمنا في أوج عطائه، ولا أحسبه كان سيمانع.
كان لا يستعملها تعليقاً على مقامات الموسيقى (فلم نكن كلانا نعرف عن ذلك الشأن الكثير أو القليل) أو أمثلة الغناء الرديئة الوفيرة الغزيرة، وإنما كلما صادفنا أو عرض لنا نموذجٌ أو مثالٌ من أمثلة الثقافة السمعية، المشوشة «الثقافة بالشبه»، الضبابية فقيرة التعريف والتحديد، تلك التي تعتمد على السمع والدارج، ويتكون جل قوامها ومحتواها من معلوماتٍ خاطئة وخلطٍ وتزييفٍ وتدليسٍ أحياناً بنسبٍ متفاوتة.
والحال أن وسائل التواصل الاجتماعي، على ما كان لها من دورٍ محوريٍ ورائد في الحشد والترويج لـ25 يناير، إلا أنها أيضاً خلقت مجالاً ومساحاتٍ لرواج وشيوع كمٍ لا بأس به من نماذج الثقافة «سماعي نهاوند» بدون أي رقابة أو تمحيص، ناهيك بالطبع عن دخول النظام وأنصاره ولجانه الإلكترونية، بغرض تشويه الثورة والتدليس عليها واختلاق سرديتهم الخاصة، الملأى بفرى المؤامرات الكونية، فهذه لن أتناولها هنا لأن لها مجالاً آخر.
ما استوقفني ويعنيني هنا هو تلك النماذج من الثقافة السماعية التي أراها تشيع، وإذا أخذنا بتعريف غرامشي، بأن كل الناس مثقفون بمعنىً ما، ومع افتراض حسن النية في كثيرٍ من هذه الحكايات، فإنها تكتسب أهميتها من خلال تعبيرها عن منظور وقناعات وآمال قطاعٍ ليس بالضئيل في الشعب؛ ليس فقط الذي يملك رفاهية اقتناء حاسوب، والوصول إليه لتناقل مثل تلك الحكايات، وإنما رجل الشارع الذي تصله عن طريق التواصل المباشر، وربما تكون قد نشأت عنده ومن ثم عرفت طريقها إلى من يدرجها كتابةً على وسيلةٍ من وسائل التواصل الاجتماعي. الملاحظ في كثيرٍ من تلك الأقاصيص أنها تحوي أعمالاً خارقة وبطولاتٍ وهمية، من عينة أسر قائد الأسطول السادس الأمريكي على يد الفريق مميش إبان 30 يونيو، ذلك النموذج الأسمى للكذب الرديء، والتبجح المقترن بالاستخفاف المذاع على الهواء، على مرأى ومسمع الملايين، الذي إن اعترفت أنه جاء من قبل أحد وسائل الإعلام الموجه، إلا أنه يصلح كأنصع مثال على ما أعنيه.
لكن هناك أكاذيب أخرى لم تلق الحظ نفسه من الشيوع الإعلامي على قنوات التلفاز، ولسببٍ يبدو غريباً للوهلة الأولى إلا أنه قد يكتسب بعداً منطقياً عند التحليل تجد أن بطلها السادات، فهناك قصة شاعت عن كونه أرسل طائراتٍ في أواخر السبعينيات قصفت ودمرت تماماً سدوداً كانت إثيوبيا تشيدها سراً، وحين ووجه بذلك أنكر وتساءل مستنكراً: «كيف أقصف ما لا وجود له؟». واللطيف في هذه القصة تحديداً هو عنصر الحبكة، فلو أنك اعترضت بأنك لم تقرأها في أي مكان، ولم تعلم أو تسمع أن ذكراً ورد بها في أي كتابٍ محترمٍ سمعت به أو قرأته تأتيك الإجابة مستخفةً بك متسامحة، في تواضعٍ، على غبائك وقصر نظرك بأن العملية كانت سرية وأن المؤامرات تحاول طمس إنجازاتنا. وأخرى أن السادات أرسل طائراتٍ هبطت في استاد كرة قدم فأجلت لاعبين ضُربوا في الجزائر في مباراة كرة قدم، وعبثاً تؤكد أن شيئاً من ذلك لم يحدث، فلا مصر كانت لديها طائرات تستطيع القيام بمهمةٍ كتلك على هذا البعد، ولن تجد إجابةً شافية مقنعة إذا ما تساءلت أين كان الجيش الجزائري ودفاعاته الجوية؟ وهل يا ترى ظل اللاعبون والجمهور ينتظرون كل هذه الساعات حتى وصلت هذه الطائرات؟ أو أن العمليات الموثقة لم تؤد إلى ما يسر، كعملية مطار لارنكا في قبرص عقب اغتيال يوسف السباعي التي انتهت بفضيحةٍ كارثية وأزمةٍ دبلوماسية.
لا جدوى من النقاش فالمنطق منتفٍ وهذه الأقاصيص لا تخضع له، وإنما هي كالأحلام لها زمنها الخاص ومغزاها أيضاً، والملاحظ أنها تجمع إلى جانب القدرة الخارقة الفهلوة والمقدرة على «النصب» والضحك على الجميع، خاصة «الخواجة» وعلى عجائبيتها، فهي تخدم أغراضاً نفسية، على الأغلب بدون وعيٍ من مردديها المنتشين بها، وسياسية أكثر خبثاً والتواءً.
بالطبع هناك قصص أكثر حبكةً من كل الأطراف على حسب انتماءاتهم السياسية لتمجيد الطرف الذي ينتمون إليه، والتشنيع على الطرف الآخر والتيار المخالف، الذي غالباً ما يكتشفون في عرضٍ جانبيٍ موازٍ أن بعضاً من أبرز شخوصه له أصول يهودية من ناحية أمه، وأن أخواله يعيشون في إسرائيل ويسهمون بنشاطٍ أسطوري في الكيد لدولنا. ومع الاعتراف باحتمال إسهام أجهزة الأمن في بذر نواة الكثير من هذه القصص، إلا أن الأكيد أنها تكتسب الكثير من لحمها ودمها وشكلها الأخير من مخيلة الناس، وفي غيبة التمحيص والتفكير النقدي تنمو وتتمدد وتتشعب حتى تكتسب حياةً ودورةً خاصة. وهنا تكمن المشكلة.
في يقيني الشخصي فإن هذه الأقاصيص وتشبث الناس بها بدرجاتٍ متفاوتة، والخارقة منها، خاصة من عينة الإنجازات العسكرية الأسطورية، كأسر قائد الأسطول السادس الأمريكي، لا تعدو كونها وسائل لتعويض الإحساس العميق بالنقص والهزيمة أحياناً لدى القطاعات الأوسع (وربما البورجوازية الصغيرة بصفةٍ خاصة)، فالواقع بائس، تزداد أزماته التي لا تبدو لها انفراجةٌ في الأفق، وجل المفاجآت (إن لم يكن كلها) غير سار، تفضح عجزاً وانعدام كفاءة وتضاؤل دور مصر وانحسار نفوذها بصورةٍ يصعب على الناس تحملها، فليس أمام الناس في غيبة إمكانيات التغيير الحقيقية سوى التشبث بهذه الأساطير ونسج المزيد منها والهروب إليها والاحتماء بها من صحراء الواقع المقفرة.
وللإنصاف فليس ذلك بالجديد على كثيرٍ من الشعوب، وعلينا بالأخص، إلا أن اللافت أنه في حين أن شعوباً كثيرة تخطت ذلك ضمن جعبةٍ من الأفكار والمفاهيم البالية مع تطور الرأسمالية، واتساع قاعدة قبول الفكر النقدي لدى الجمهور الأوسع، فإننا في المقابل ما زلنا ننتج الأفكار نفسها بالآليات نفسها، وبالتالي السمات العامة نفسها، وكتب التراث ملأى بما دُس على الحديث والسيرة من الفرق الإسلامية والمتكلمين، بما يؤكد مواقفهم ورؤاهم ويدحض ويشوه، بل يشيطن الفرق المعادية، ولليهود أيضاً حضورٌ بارز في تلك المنازعات والحجج، ولعل أشهرهم عبد الله بن سبأ الذي يستدعى فيحضر ثم يغيب وفق احتياج السرد.
في هذا السياق أتفق مع رولا بارت بأن الأساطير عادةً ما تجنح إلى اليمين والرجعية، وعلى ذلك فليس من عجبٍ في كون السادات بطل الكثير من هذه الأساطير الهزلية، أليس هو بطل هذه الطبقة الرجعية ورأس حربة مشروعها الأكثر شراسةً وجشعا.
وفي حين قد يبتسم المرء في بعض الأحيان من بعض هذه الأساطير ويستمتع بها كفكاهاتٍ مسلية، حين لا تتعلق بالشأن العام ، إلا أن موقفاً متساهلاً كهذا يعتبر تفريطاً في ما يخص السياسة والمواقف العامة، خاصةً أن كثيراً مما يبدأ أسطورةً واختلاقاً يتم التعامل معه بعد فترة كأنه عين الحقيقة الموثقة، فيصبح عملاً مؤسساً ومرجعاً وحجةً يقاس عليها. ومع دورة الوهم تتكون تلالٌ من الأكاذيب، تحاك من تضافرها سردياتٌ موازية لها قوة وفاعلية وقدرة على تحريك الناس، أي أنها تمتلك قوة قد تؤثر في سيرورة العملية السياسية.
غير أن ما يزيدني ضيقاً (وحزناً في حقيقة الأمر) من تعلق الناس بأمثلة الثقافة السماعية تلك، هو ما يمثله ذلك الولع المصدق من دفع ديون الطبقة الحاكمة بأثرٍ رجعي من قبل المتضررين منها، فلا يصبح السادات (وطبقته) المسؤول الأول والرئيسي عن الانهيار الاجتماعي- الاقتصادي وجعل مصر نهباً للنيوليبرالية ورأس المال الأجنبي، وإنما البطل القومي على أرضيةٍ وطنيةٍ من بطولاتٍ وهمية ومختلقة. في كل مجتمعٍ تكون ثقافة الطبقة الحاكمة هي المهيمنة، والصراع لا يخاض فقط على الجبهة الاقتصادية والسياسية، وإنما أيضاً في ميدان الأفكار والرؤى. لا يكفي أن يمتلك معسكر الثورة رؤيته الخاصة وتحليله للأحداث، وإنما ينبغي أيضاً أن يفند وينسف من الأساس تلك الأساطير التي يتعلق بها الناس في يأسهم وبحثهم عن انتصارات رخيصة، فهي في نهاية المطاف تصب في مصلحة النظام وتخلع عليه أوسمة إنجازاتٍ وهمية لا يستحقها البتة.
الانتصارات الحقيقية يصنعها الناس، هم أبطالها ونَفَسُها ومادتها؛ ليس السادات أو مبارك وأتباعهما وأزلامهما وطبقتهما، ومن أجل هؤلاء الناس ومعهم لا بد من العمل على رفع مستوى الوعي بحقوقهم المهدرة المسلوبة، وببطولاتٍ حقيقية تحدث يومياً، في المصانع وأماكن العمل والطرقات، في التحايل على معيشةٍ تزداد ضنكاً وعوزاً، ثقافة حقيقية لا تلك التي تخدم أعداءهم وسالبيهم، الأسطورية «السماعي نهاوند».
كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل