تعالوا إلى الأول

حجم الخط
7

كان يونس، بطل رواية «باب الشمس» في كل منعطف جديد تأخذنا إليه الهزيمة العربية يصرخ عبارته الأثيرة «من الأول»، ويدعو إلى البدء من جديد.
هذه الطاقة على البداية الدائمة لا يتحلى بها إلا أبطال الروايات، أو هكذا يعتقد أغلبية الناس، فالإنسان لا يعيش سوى حياة واحدة لها بداية ونهاية، ولا يملك الأفراد طاقة على الذهاب إلى الأول، بل يفضلون التدثر بالنهاية والاستكانة إلى أقدارهم، أو ما يعتقدون أنها أقدارهم.
والحق يقال، فأنا أيضا كنت ميالا إلى هذا الافتراض الشائع، وكنت أعتقد أن الأدب لا يعبّر عن الواقع إلا ليضيء على احتمالاته، فالكاتب مهما بلغ به الحرص على الواقعية، يجد نصه يتمرد عليه ويذهب به إلى المتخيل الذي يعيد تأويل الأشياء ويحولها إلى استعارات.
لذا كانوا يحذروننا من تصديق الروايات، نقرأ كي نتمتع ونتأمل ونناقش مصائر الشخصيات باعتبارها رموزا، لكن علينا ألّا نقلدها، وإلا فإننا سندمر حياتنا.
انطلاقا من هذا الاقتناع كنت أتساءل دائما لماذا يكتب الأدباء؟ وشعرت بالعجز وأنا أكتب روايتي الأولى، التي لا أعلم حتى الآن كيف أنجزتها.
.لكن الحرب الأهلية اللبنانية التي انفجرت عام 1975 سرعان ما أخذتنا إلى دوامتها الرهيبة، وعشنا معلقين بين الحلم والكابوس، لا ندري هل نحن أمام بداية جديدة أم نحن أمام نهاية نسعى إليها من دون أن ندري.
هذا الالتباس اللبناني الكبير صنع حياتنا، وحوّل كلماتنا إلى مرايا هذا الالتباس، وأدخلنا إلى الحكاية الفلسطينية التي كانت قد رسمت طريق الالتباس بين البداية والهاوية قبل بداية الحرب اللبنانية بحوالي ثلاثة عقود.
هنا اكتشفنا التطابق المرعب بين الواقع والخيال، وبين الحلم والكابوس، لم يعد السؤال هل نبدأ من الأول، بل صار السؤال هو كم من المرات علينا أن نعود إلى الأول الذي من دونه تفقد الحياة معناها. وأين نجد الأول؟ هل علينا أن نكرر هذا الأول أم علينا أن نكتشف كيف تتخذ البداية أشكالا جديدة؟
ربما انطلقت صرخة الأول الكبرى عام 1982، بعد اجتياح لبنان وخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت ومذبحة شاتيلا وصبرا. يومها سادت فكرة النهاية، وكان على من صرخوا من الأول أن يبدؤوا في بناء المقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي من قعر الهزيمة.
في تلك الأيام الصعبة لم أكن أعرف من حكاية يونس سوى صرخته «من الأول»، أما باقي عناصر الحكاية فكان عليها أن تنتظر أكثر من عشر سنين كي تبدأ في التبلور.
لكن الأول اللبناني الذي سوف يُجهض عبر طرد المقاومين اليساريين من المقاومة، تصادى مع أولٍ آخرَ صنعته انتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين.
من كان يتخيل أن حصاد الهزيمة المروعة في لبنان، وهي هزيمة تتحمل أخطاء المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية قسطا كبيرا من مسؤوليتها، من كان يتخيل أنها ستزهر في انتفاضة فلسطينية وفي مقاومة لبنانية.
ربما كان خطؤنا الكبير في تلك المرحلة أننا لم نفهم أننا كنا أمام أول حقيقي، بل تصرفنا وكأن هذا الأول هو استئناف للماضي الذي اندثر في الهزيمة. الحركة الوطنية اللبنانية، رغم قيادتها للمقاومة، انخرطت من جديد في الحرب الأهلية، والمقاومة الفلسطينية اعتبرت الانتفاضة استئنافا لدور قياداتها القديم.
مشكلة من الأول أنها تبدو كصرخة حنين إلى الماضي، بينما هي في الواقع دعوة إلى بداية جديدة بالمعنى الجذري للكلمة. لأن كل عودة إلى افتراض ماضوي سوف تقود إلى هزيمة مشابهة للهزيمة التي جاء الأول الجديد بهدف الخروج منها والتمرد على نتائجها.
وهذا ما نعيشه اليوم ليس في لبنان وفلسطين فحسب بل في كل المشرق العربي الذي يخيم عليه شبح الدمار والهزيمة.
مؤشرات الأول الجديد جاءت من «هبة القدس»، وهي تشكل احتمال بداية جديدة تتوج انتفاضة مستمرة ومتعرجة المسارات تمتد من السكاكين إلى باسل الأعرج. هنا يجب أن لا نخطئ في قراءة دلالات الأول، فهذا الأول هو تجاوز جذري للانقسام المرضي بين السلطة وحماس، إنه دعوة لفتح صفحة جديدة تتجاوز محاولات الاستيعاب والتدجين. إن إخضاع هذا الأول للغة القديمة سوف يدمره ويحوله من إنجاز إلى هزيمة جديدة يتجرعها الفلسطينيون على طاولة المفاوضات العبثية.
أما في لبنان فإن الأول أشد غموضا، النظام اللبناني يترنح تحت الفساد والهيمنة العسكرية لحزب الله، وما يسمى بقوى المجتمع المدني لا تزال عاجزة عن بلورة رؤية سياسية جديدة، أو غير راغبة في ذلك، فبعض أطرافها يعتبر أن التسلل إلى المجلس النيابي هو الهدف، علما أن الانتخابات التي يقال إنها ستجري بعد أقل من سنة، لم تعد العامل الوحيد المقرر في اللعبة بعدما بدأت ملامح هيمنة محور التيار العوني- حزب الله على السلطة في التبلور. الأول اللبناني يجب أن يكون جديدا بشكل جذري، كي يستطيع أن يبدأ في بناء مطارح البديل العلماني الديموقراطي للنظام الطائفي برمته.
الأول ينادينا في كل مكان في المشرق العربي، من سوريا المنكوبة بالوحشية والاستبداد الهمجي إلى العراق واليمن وليبيا وصولا إلى مصر التي استعادتها الديكتاتورية العسكرية.
المنطقة تبحث عن الأول، هذا ما تعلمناه من نهايات المراحل والتباساتها، لكن شرط الأول هو أن نتعامل معه بصفته صفحة جديدة تؤكد أن النضال من أجل المساوة والعدالة هو المسألة الكبرى التي تواجه العالم العربي.

تعالوا إلى الأول

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    النظام العلماني هو البديل الأنسب للبنان من النظام الطائفي الموجود الآن
    فلبنان مقسم إلى طوائف وأقليات نصفها يدعي الإسلام والنصف الآخر المسيحية
    وكذلك نصف هؤلاء وهؤلاء مؤيدين لنظام الطاغية السوري بشار والنصف الآخر معارض
    ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول سنتيك اليونان:

      الى الاخ الكروي
      النظام العلماني وما يتبع من حريات بلا حدود هي اساس التطور والتقدم والازدهار اللذي نراه في كثير من بلدان العالم
      بخصوص لبنان والعالم العربي. فالتدين والدين متأصل بالنفوس لغاية الان كما ان المجتمع في لبنان وفِي الشرق الأوسط لا يزال مجتمعا قبليا او بلوتوقراطيا
      الوطنية والقومية بعدها في المهد
      لقد ثار المقدسيون. والفلسطينيون والعرب احتجاجا على اسرائيل لانها قامت بوضع حواجز الكترونية امام المسجد الأقصى …..يا عالم يا عرب يا مسلمون يا بشر اسرائيل احتلت كل فلسطين وشردت او استعبدت او حاصرت اَهلها والعرب والمسلمون يتقاتلون هل الحواجز الالكترونية جوهر مشكلاتنا ومصابنا. كي نفرح نهلل لإزالتها
      والأخ ألياس يتفاءل من ما جرى في القدس

    2. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

      يا أخي سنتيك اليونان تذكر أن أول انتفاضة في فلسطين كانت عام ١٩١٩ ضد هجرة اليهود المنظمة بدعم من الاحتلال البريطاني, وهكذا انتفاضة الأقصى ليست إلا صفحة في نضال عمره ١٠٠ سنة منذ وعد بلفور ومازال مستمراَ. أخيراً وبالمناسبة, أنا برأيي هذا الصراع الأيديولوجي العقيم بين العلماني والديني (والدموي على مستوى الأنظمة القمعية أيا كانت!) هو الذي دمرنا قبل أي شيء أخر.

    3. يقول سنتيك اليونان:

      الى الاخ ossama
      يعجبني تفاؤلك اللذي لا ارى له مبرر. ما هي نتيجة نضال مائة. سنة ؟؟؟ هل نسير الى الامام ؟؟؟ الم نكن أحسن حالا قبل مائة عام بل قبل ٥٠ عام بل قبل خمسة أعوام …..نحن نتراجع الى الوراء بسرعة الصوت …..وكما كتبت أعلاه لقد تأصلت فينا القبلية والبلوتوقراطية (حكم ذوي المال)

    4. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

      صحيح أخي سنتيك اليونان, الواقع ربما لم نحقق إلا القليل والحال من سيء إلى أسوأ لكن لاداعي للرضوخ إلى الواقع المرير. طبعاُ علينا دائماً أن ننظر إلى ما تحقق وماهي أسباب فشلنا أو خسارتنا, لكن أن نبقى على هذا الإصرار مهم جداُ وإن كان ليس سهلا بالتأكيد, وخيارنا الأساسي إذا لم يكن الوحيد. عملياً التفاؤل ليس إلا تعبير عن الإرادة في أننا على استعداد لأن نتحمل أعباء اختيارنا ولن نتخلى عن حقنا أو أهدافنا.

  2. يقول سوري:

    وضعنا أشبه بعربة فقدت مكابحها في منحدر خطير، فقد سائقها السيطرة عليها، فحركتها باتت ذاتية باندفاعها، وبحدة الانحدار الذي تحكمه قوانين علم المكانيك في تحرك الكتل على سطح مائل، وبمعنى آخر ان سرعتها ستزداد، ولن تقف في منتصف المسار إلا بقوة مضادة لها تساويها بالحجم والاندفاع، أو القاع الذي سترتطم به، وشرقنا، استاذنا وحبيبنا، لم يصل إلى القاع بعد وارتطامه بالقاع سيولد انفجارات أخرى، عندها ستكون النهاية، والعودة على بدء، هذا التفكير خطر لي عندما قرأت روايتك باب الشمس، وتأصل وأنا أمام مشهد مشرقنا يهوي بدون مكابح، والجميع بانتظار الارتطام،

  3. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    ذكرتني صرخة يونس «من الأول» بهذه الرواية. سئل أينشتاين عالم الفزياء المشهور (الألماني اليهودي الذي هاجر إلى أمريكا هرباً من النازيين) كيف ستكون الحرب العالمية الثالثة قال لا أعرف لكن الرابعة ستكون بالعصي والهراوات, أي ستعود البشرية إلى الحياة البدائية بسبب بشاعة أي حرب عالمية ثالثة.

إشترك في قائمتنا البريدية