القاص الأردني هشام البستاني: أعمل على شبك كتابتي بالأجناس الفنية الاخرى!

حجم الخط
1

اجرى الحوار: نضال القاسم: عن دار ‘الآداب’ اللبنانية صدرت مؤخراً مجموعة قصصية للكاتب الأردني الدكتور هشام البستاني تحمل عنوان ‘أرى المعنى’ متوجهاً فيها نحو مسارات تعبيرية جديدة تبتعد عن أجواء السرد القصصي التقليدي وتنفتح على فضاءات الفن التشكيلي والسينما والدراما والحورات المسرحية.
وهذا ما بيّنه الكاتب نفسه على غلاف الكتاب بقوله: ‘سرد موسيقي أو قصص على تخوم الشعر’. وكأنه يريد أن يحذر القارئ المتعجل أن ما سيجده في كتابه يحتاج لتروي ، وان تفكيك نصه يحتاج إلى شفرات مقتبسة من ميدان الشعر والموسيقى.
وجدير بالذكر أن هذه هي المجموعة الثالثة للكاتب حيث سبقتها مجموعتان قصصيتان الأولى بعنوان (عن الحب والموت، بيروت، دار الفارابي، 2008م) والثانية بعنوان (الفوضى الرتيبة للوجود، بيروت، دار الفارابي، 2010م). وبصدور هذه المجموعة الثالثة يبدو واضحاً أن أدوات الكاتب اتضحت أكثر، وباتت تحمل أبعاداً جديدة أهمها مواصلة انتهاك الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، والتخلي الطوعي عن مسار السرد التقليدي وتجلياته المعروفة مثل الحبكة أو العقدة، بل في مجموعته هذه تم التخلي عن البطل كشخص محوري في النص، سواء كان هذا البطل إنسانا أو ثورا أو عمارة، مقابل البطل الجماعي الذي هو النص ككل.
وما يميز الدكتور هشام البستاني عن أبناء جيله هو قدرته على الانخراط في العمل العام بشغف، فهو أمين سر منتدى الفكر الاشتراكي في الاردن، وأحد مؤسسي التحالف الشعبي العربي المقاوم، وناشط في لجان مقاومة التطبيع، والحريات، شارك كمنظم ومتحدث في العديد من المؤتمرات والمنتديات العربية والعالمية المناهضة للهيمنة والعولمة والامبريالية، وإلى جانب ذلك أيضاً فهو يكتب المقالات والدراسات وينشرها في الصحف والمجلات العربية وغير العربية، وتُترجم مساهماته إلى غير لغة (الانجليزية والفرنسية والاسبانية والإيطالية)، ونشرت قصصه في العديد من الصحف والمجلات العربية، واختيرت ضمن عدد من الملفات الأدبية عن الكتابة العربية الجديدة. وقد اختارته مجلة ‘إينامو’ الألمانية كواحد من أبرز الكتاب العرب الجدد، ونشرت ترجمة لقصص له بالألمانية ضمن العدد الخاص بـ’الأدب العربي الجديد’ شتاء 2009م، وقد اختارت مجلة ‘وورلد ليتريتشر توداي’ الأدبية االامريكية العريقة قصته ‘التاريخ لا يصنع على هذه الكنبة’ لتكون ضمن ملفها المخصص لنماذج مختارة عالمياً من القصة القصيرة جداً، عدد سبتمبر- أكتوبر 2012م. كما احتفى القسم الخاص بالأدب المترجم في مجلة ‘ذي سانت آنز ريفيو’ الأدبية االامريكية بقصته ‘كوابيس المدينة’، حيث نشرت القصة مترجمة إلى الإنجليزية في عدد صيف/خريف 2012م. وفي عام 2011م قدمت المخرجة جويس الراعي مسرحية ‘عزلة’ استناداً إلى مجموعة من أعماله القصصية، كما حُوّلت قصته ‘ليلى والذئب’ إلى فيلم غرافيكي قصير من رسم الفنان التشكيلي محمد التميمي وإخراج الفنان التشكيلي علاء الطوالبة.
حول تجربته القصصية والفكرية كان لنا معه هذا الحوار.
*أنت قاص وتكتب أيضاً المقال الفكري والسياسي، إضافة الى جهودك البحثية والصحافية.. برأيك كيف يمكن لكل هذه التركيبة المتشعبة أن تنسجم في شخص واحد، وإلى أي خانة من هذه الخانات تريد أن تنتسب؟
*ليس هناك إنسان ‘نقيّ’، وإن كان ‘النقاء’ منتفياً تماماً على المستوى العرقيّ والثقافيّ، فهو ينتفي أيضاً على المستوى الفرديّ، خصوصاً إن كان هذا الفرد ينتسب أو ينسب نفسه إلى ما قد نطلق عليه تبسيطاً اسم: ‘المثقفين’. المثقف هو حالة نقدية اشتباكية اشكالية بالضرورة، حالة تسأل وتفتح الأسئلة وتبحث عن الحريّة المطلقة وتدفع من أجلها. هذا يضعه بالضرورة في مواجهة السلطة بكل أشكالها: السلطة الدينية والسلطة السياسية وغيرها من تمظهرات السلطة. يؤدي بنا هذا إلى أن المثقف هو شخص متفرّع بالضرورة، له تحرّكاته وتعبيراته على مستويات عدّة، له أرضياته المعرفية والسياسية، له رؤاه المتفرّدة للعالم التي يعبّر عنها من خلال فنّه أو أدبه، له آراؤه التي تنبثق عن القيم الأساسية التي يمثّلها، وهكذا. هذا يرتّب عليه مسؤولية التعبير عن هذه الآراء ودفعها إلى مساحات النقاش والتفاعل والتأثير والتغيير. لذلك أجد أن وضع المثقف في ‘خانة’ ما – سواء كان ذلك بخياره أو بتصنيف/ تنميط من الآخرين- هو تصغير وتسفيه لدوره. ‘المثقف’ الذي يترفّع (أو يجبُن) عن إبداء رأيه في إشكالات عالمه المعاصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ‘المثقف’ الذي يترفّع (أو يجبُن) عن مساءلة السلطة ونقدها ومواجهتها، ليس ‘مثقفاً’، ولا قيمة له خارج إطار السلطة (إن كان موظّفاً عندها) أو خارج إطار برجه العاجيّ (إن كان ‘منعزلاً’ باختياره). ثمة عبارة أقدّرها كثيراً لحيدر حيدر أوردها في يوميّاته ‘أوراق المنفى’: الحياد في زمن الصراع تواطؤ. عالمنا المعاصر هو ليس إلا كومة كبيرة لا تنتهي من الصراعات، حاوية من القتل والظلم والاضطهاد التي يقوم بها الإنسان ضد أشقائه من نفس الجنس، وضد أشقائه من الأجناس الحيوانيّة الأخرى، وضد الطبيعة نفسها. من يتعامى عن ذلك كلّه هو متواطئ بالضرورة، هو جزء من المشكلة. أنا اخترت الطريق الآخر: طريق الاشتباك على كل الصعد: في الشارع، ومن خلال الكتابة البحثيّة، والمقال الصحافي، والأعمال الأدبية، والعروض التي أقدّمها على المسرح بالتشارك مع فنّانين آخرين. ليس ثمّة أدب أو فنّ تأتي مادّته من خارج العالم. حتى السوريالية (التي أستعملها في كتابتي الأدبية كثيراً) تتشكل من عناصر العالم الواقعي أيضاً لكن بترتيب مغاير وبزوايا نظر مختلفة. الفنان أو الكاتب المنعزل عن محيطه ـ إذن- هو مجرّد كذبة كبرى اخترعها لتعزيز أناه المتضخّمة/ الفارغة، وعجزه، في آن.
* يقال بأن الأدب عرض تقابلي للموت والحياة.. وهذا ما حاولت تحقيقه في مجموعتك القصصية الأولى (عن الحب والموت) فهل هذا صحيح؟ وكيف تتحدث عن تجربتك الإبداعية؟
* الحياة والموت شيء واحد، نستطيع أن نصل ببساطة إلى هذه النتيجة عندما نعلم أن لا حياة بلا موت ولا موت بلا حياة. إنهما مرتبطان معاً بمعنى الضديّة الهيغلية إذ يُعرّف واحدهما الآخر بالضرورة، ولا وجود لأحدهما دون الآخر. الأدب والفن والكتابة والعمليّات الإبداعية بمجملها هي محاولة الحياة للبقاء بعد الموت بالمعنيين المادي والمعنوي. بُناة البتراء ـ مثلاً- ماتوا منذ آلاف السنين، لكن صروحهم المعماريّة الفنيّة بقيت شاهدة على إبداعهم من جهة، وأثّرت في من تلاهم من جهة ثانية. كارل ماركس مات عام 1883م، لكن تأثيراته الفلسفية والفكريّة مستمرّة وستظلّ، مثله مثل تأثيرات ديمقريطس وأفلاطون وبيكاسو ودالي وبيتهوفن وشكسبير والحلاج وهكذا. وأنا عندما أكتب أدباً إنما أحاول أن أعمل في هذه الخانة بالذات: أن أترك علامةً مثل الإنسان القديم صاحب جدرايّات الكهوف، أو أن أحرف مسار التاريخ ولو بمقدار درجة في اتّجاه القيم التي أمثّلها. ثمة متوسّط لعمر الإنسان سيعود بعدها أو قبلها إلى الطبيعة، تتفكك ذرّاته وينعدم وعيه، على الإنسان في الفترة القليلة التي يمتلك فيها الوعي والقدرة على التعبير والإرادة، أن يستعمل هذا الوعي وتلك القدرة على التعبير والإرادة فيما يساهم على إنجاز القيم الكبرى المتعلقة بالحريّة والعدالة. للأسف ما يحصل هو العكس: ففي حين أن العالم المعاصر يُنتج فعلياً ما يكفي من الطعام للقضاء قضاء مبرماً على الجوع، إلا أن ملايين الناس يجوعون ويموتون من نقص التغذية؛ ورغم أن العالم قادر تكنولوجياً على التحوّل إلى الطاقة النظيفة وتطوير حياة بشرية صديقة للبيئة، إلا أن الاهتمام بتصنيع القنابل النووية والأسلحة القاتلة يطغى على كل شيء آخر. هذا العالم هو ‘القيامة الآن’ (بالمعنى التدميري الأبوكاليبسي لا بالمعنى الانبعاثي، باستعارة من فيلم فرانسيس فورد كوبولا الذي يحمل نفس الاسم والمعبّر بدقة عن هذه الفكرة)، والكاتب هو الشاهد على هذا الأبوكاليبس والمقاتل ضدّه.
‘عن الحب والموت’ (كتابي الأول، الصادر عام 2008 عن دار الفارابي، بيروت) يبدأ من هذه الأفكار التي استكملها لاحقاً في كتابيّ التاليين (‘الفوضى الرّتيبة للوجود’ ـ دار الفارابي 2010م، و’أرى المعنى’ ـ دار الآداب 2012م). الحب هو التعبير الأبرز عن الحياة، أو لنقل هو عتبة الحياة ومفتتحها، وهو الذي يجعل من نهايتها مأساة عبثيّة. لا مأساة تُذكر في نهاية حياة خالية من الحبّ، لكن المأساة تتجلّى، وتتوضّح تناقضاتها، في نهاية حياة مليئة بالحبّ، أو ما قد يظنّ أنه الحبّ. يبدأ كتابي ذاك بفخّ (القصة الأولى ‘غيمة صيف بطعم العسل’) يجرّ القارئ إلى ما قد يظنّ أنه رومانسية تسم مجمل أعمال الكتاب، لكن الحب يبدأ بالتفسّخ التدريجيّ في الفصل المسمّى باسمه والمتكوّن من أربع قصص، ليجد القارئ نفسه وجهاً لوجه أمام اثني عشر موتاً متتالياً تنتهي في القصة الأخيرة ‘الفارس الأخير داخل خزّان بلا جدران’ ببطلنا إذ ‘عاد إلى حيث كان، جلس ورأسه بين يديه: يقلبه، يفكفكه، يخضّه، يدحرجه’. لا نهاية ولا إجابة للسؤال الوجودي الأساسي، وإنما هو محاولة لمقاربة هذا السؤال ودفع المتلقّي إلى مقاربة ذاتية في نفس السياق. ‘عن الحب والموت’ هو سلسلةُ صفعاتٍ يتلقّاها القارئ بعد مدخلٍ ماكر، سلسلةُ أسئلةٍ يهرب يومياً منها حتى يعيش حياته الطبيعية. مهمّتي كأديب أن أنغّص عليه هدوءه الكاذب واطمئنانه الناتج عن العمى أو التعامي. هذا ما حاولته في ‘عن الحب والموت’، وما استكملته في كتابيّ التاليين.
* إحتوى كتابكم الصادر مؤخراً عن دار الأداب في بيروت بعنوان (أرى المعنى) على جملة من النصوص المتنوعة السرد المفعمة باشتغالات التجريب الجمالي والبحث الرصين في التقاط الأفكار في أسلوبية سردية تمزج بين النص الشعري والقصصي، فما هو الشيء الجديد الذي يميز هذه التجربة عن بقية اعمالك الإبداعية؟
*في كتابتي الأدبية، كنت دائماً أبحث عن الاشتباك مع الآداب الأخرى (وتحديداً الشعر)، والفنون بأنواعها، والفلسفة والعلوم، يتجلّى هذا في كتابي الأول (‘عن الحب والموت’) بمجموعة من المرجعيات الموسيقية والفنية والأدبية والعلمية التي استعملت بعضها كمفاتيح للنصوص القصصية (تثبت قبلها)، وبعضها أدمجته داخل النص، وفي نهاية الكتاب ثمة ‘مواد ضرورية للتفاعل مع النصوص’ ثبت فيها قائمة من الكتب والمواد الموسيقية لعل القارئ المهتم يرجع إليها فيحقق فهماً أعمق بعد إعادة القراءة. كانت تلك محاولة للاشتباك مع تلك المواد بمعنى أو بآخر. في كتابي الثاني ‘الفوضى الرتيبة للوجود’ ثمة تطوير لهذا الاشتباك عبر إدخال عناصر جديدة في بنية القصص مثل الصور الفوتوغرافية (في قصتي ‘كوابيس المدينة’ و’العبور’)، واستخدام تقنيات مدرسة الواقعية القذرةDirty Realism (في قصّتي ‘فيصلي ووحدات’ و’المثقفون’)، وإيراد مقاطع من أفلام (في قصة ‘غبار النجوم’)، واستعمال التخييل التاريخي Historical Fiction (في قصّتي ‘محمد حمد الحنيطي’ و’الانكسار البطيء للقيود البعيدة’)، بل توجد قصة كاملة (هي ‘أوركسترا’) مكتوبة على نسق شعر التفعيلة وموزونة من أوّلها إلى آخرها.
كتابي الثالث يذهب في مسار استكمالي على صعيد الثيمة، ولكنه مغاير بالكامل على صعيد الشكل، فقد صنّفته على أنه ‘سرد/موسيقى، أو قصص على تخوم الشعر’، ونصوصه من النوع القصير جداً الذي يتراوح بين ثلاث صفحات وسطر واحد. وإن كنت أرى أن مستقبل الفنون والآداب هي في المناطق التخومية بينها، ومقدار ما تحدثه من تأثيرات بعضها ببعض، فإن ‘أرى المعنى’ هو محاولتي الأساسية في الكتابة التخومية: كتابة قصصية على تخوم الشعر والسينما والجرافيك والفن التشكيلي والمسرح في متتالية تبدأ بالرقم 1 وتنتهي بالرقم 78. لا أسماء لقصص هذا الكتاب، بل أسماء لفصول، وهي تشتغل على التكثيف الشديد وتعدد الدلالات والعمق، وهي (مثل الفيزياء الكموميّة) تعمل على توليد الاحتمالات لا حسم الإجابات أو الإشارة إليها أو التلميح بها. ‘أرى المعنى’ هو قصص ونصوص تحاول التفاعل مع القارئ وتدفعه على الاشتباك معها، تحفّز التخييل، وتحوّل القارئ إلى شريك في النصّ وفاعلٍ فيه. بالنسبة لي: الأدب الجيّد هو ذلك الأدب الذي يفتح مساحات التخييل إلى أقصاها بدلاً من أن يصادرها. لهذا أجد نفسي قريباً من القصة القصيرة (والشعر) في إنتاجي الأدبي، وبعيداً عن الرواية.
أنا من أولئك القائلين بأهمية الشكل والمضمون معاً، المضمون الجيّد يسقط فنيّاً دون شكل فذّ، والشكل الجميل يظلّ فارغاً أجوفاً دون مضمون قويّ. قمّة الإنجاز الأدبي (برأيي) هو الوصول إلى شكل يعبّر عن المضمون، أو لنقل: أن يندمج هذا الركنان فيصبحان واحداً، أو يسيران معاً نحو بعضهما البعض إلى أقرب نقطة ممكنة. ‘أرى المعنى’ هو أيضاً محاولة في هذا الاتجاه، يسير فيها المضمون باتجاه الشكل والعكس نحو أقرب نقطة ممكنة.
* يرى الناقد والشاعر تامر عفيفي في دراسته التي قدمها عن مجمل إنتاجك القصصي أن نصوصك اشتباكية بامتياز، وأنها تجريبية بلا منازع، وأنها تتصف بحرفيّة عالية، وهي نصوص تحاول فيها أن تدمج السرد والشعر والاحالات السينمائية والفوتوغرافية والغرافيكية في بوتقة واحدة تصل إلى ما بعد الكتابة. فهل ترى معي أن ما ذكره الناقد ينطبق على مجمل نتاجك القصصي أم أنه ينطبق فقط على مجموعتك الأخيرة (أرى المعنى) ؟
*أول من تحدث عن ‘ما بعد الكتابة’ في إنتاجي الأدبي كان الكاتب والناقد سامح المحاريق في مراجعته لكتابي ‘أرى المعنى’ لصحيفة الرأي الأردنية، كما تحدّث المحاريق أيضاً عن أن كتابتي ‘تطرح الأداة التعبيرية نفسها كإشكالية’، فالقصة لدي كما يرى المحاريق ‘لم تعد تعني بالعمران الشكلي وإنما بالدور أو الوظيفة الذهنية… والسرد ليس شعريا بمعنى الايقاع أو المعنى الشعري المحدود، وإنما بتجاوزه للمألوف واندفاعه في التجريب والمحاولات للتغلب على أزمة اللغة العادية بحثا عن لغة مكثفة تشبه الأعمال التي تضعها النصوص الدينية الآسيوية لتكون في حد ذاتها مفتوحة على القراءة بحرية، لتفهم بأكثر من طريقة’ ويلج المحاريق من هذا الباب ليقول أن هذه التقنية في الكتابة ‘ليست اعتيادية أو مألوفة، ولكنها ستكون تقنية المستقبل، أو أدب ‘ما بعد الكتابة’ والتي برأيه ستعيد ‘انتاج موجة سيريالية جديدة في ثقافة فوتت الفورة السيريالية في القرن الماضي’.
أنا أعتقد أن الفقرات المكثفة التي كتبها سامح المحاريق عن ‘أرى المعنى’ هي أعمق ما كتب عنها من مراجعات، لأنها قرأت النص بأدوات إنتاجه الأصلية، وهي أدوات لا تتوفر للكثير من النقّاد الكسالى الذين توقّف تطوّرهم النظريّ والمعرفي منذ زمن طويل من جهة، وعجزوا عن انتاج نظريّات نقدية أصيلة تقرأ المنتج الأدبي العربي من داخله لا من خارجه. وأنتهز الفرصة هنا لأدعو سامح المحاريق لأن يزيد من مساهماته في النقد الأدبي، وأعتقد أنه إن ركز جهوده في هذا المجال، فسيكون ناقداً هاماً في مرحلة نفتقد فيها النقد تماماً.
عودة إلى سؤالك: أتفق مع ما ذكره تامر عفيفي تماماً. فكما قلت سابقاً، ‘أرى المعنى’ هو استمرار لما عملت عليه في كتابيّ اللذين سبقاه، لكنه يتميّز بالتكثيف الشديد من جهة، واعتماده شكلاً مغايراً وجديداً من جهة ثانية. كما لم يتوقّف الدفع باتجاه ‘الاشتباك’ مع الآداب والفنون الأخرى على المحاولات الكتابية، بل تعدّاه إلى انجاز أعمال مسرحية تستند على القصص القصيرة (مسرحية ‘عزلة’ من إخراج جويس الراعي، 2011م)، وفيلم جرافيكي قصير عن قصتي ‘ليلى والذئب’ (من إخراج علاء الطوالبة ورسوم محمد التميمي، 2012م)، وعرض سردي/موسيقي/تشكيلي بعنوان ‘أرى المعنى’ (بمشاركة بسمة النسور وعلاء الطوالبة ورانيا عجيلات، 2012م)، ومؤخراً قمت بإدماج السرد القصصي داخل بنية الأغاني المدينية المعروفة باسم الهيب هوب/راب ضمن ألبوم ‘أثر الغراب’ لمغني الراب وكاتب شعر المحكية كاز الأمم (ألبوم ‘أثر الغراب’، كاز الأمم، 2013م)، وقدمنا عرضاً متكاملاً بنفس السياق على خشبة المسرح الدائري ضم أيضاً فرقة ‘ترابية’ والموسيقي المصري ‘حسين عبد المنعم’، وأعمل حالياً على إنجاز مجموعة من المشاريع الأخرى في نفس السياق ضمن نطاق اشتباكي مع الشعر والرقص المعاصر والموسيقى.
لا يقف الاشتباك الذي أعمل عليه عند حدود الورق، بل أدفعه للتشكل ماديّاً مع فنانين طليعيين على خشبة المسرح أو باستخدام وسائط مرئية/مسموعة وغيرها.
*هناك حالة من الوهن الذي تعيشه ثقافتنا اليوم بالمقارنة مع مرحلة الستينيات والسبعينيات، هل صحيح أن الهبوط السياسي العربي قد جرَّ معه الأدب وأنواع الفنون الإبداعية الأخرى، بمعنى اخر ، هل صحيح أن الوطن العربي يعيش حالة ذبول في الإبداع الثقافي ؟
*أتفق معك على أن هناك حالة من ‘الذبول’ في الإبداع الثقافي والمعرفي والأدبي، الذبول بالمعنى النوعيّ لا الكميّ، والذبول بمعنى انتفاء ‘الوهج’ و’الحرارة’ والتأثير’ عن ‘الإبداع’ عموماً، يفاقمها حالة من عدم الاكتراث بهذه المجالات وتراجع نطاقات تأثيرها، والتسخيف الحاصل للعملية الأبداعية بانتشار وسائط الميديا الاجتماعية.
أمام زحف الرأسمالية ونمطها السلعيّ الاستهلاكيّ، وانتشار وسائطها المتعلّقة بالترويج مثل التلفاز والإعلانات وغيرها، ومع التركيز الكبير على الذات والذاتية والأنا المنفردة (التي تعتبر الوحدة الاستهلاكية الأهم) والتركيز على الرغبات الفردية وتلبيتها وإشباعها، والانتقال من مرحلة ‘الطلب الذي يحدد العرض’ إلى صناعة الطلب وصناعة الحاجة من خلال الاعلانات والوسائط الأخرى التي تستعملها الرأسمالية لتنميط الأفراد واختراع احتياجاتهم بما يتوائم مع الاستهلاك. هذه الأمور حلّت بتأثيراتها محلّ الأدب والثقافة والإبداع، بل إن بعض مجالات الإبداع (مثل السينما والفن التشكيلي والرواية) تحوّل في سياقات كبيرة منه إلى سلعة في ‘السوق’. لم نعد نسمع عن كتّاب كبار لا لأن الكتاب الكبار نفدوا، بل لأن الكتابة نفسها لم تعد ‘كبيرة’ أمام اكتساح الميديا السطحية والدعائية/ الاستهلاكية لها، وصارت هذه الأخيرة هي صاحبة التأثير الأول.
من جانب آخر، الكتابة (والعمليات الإبداعية بمجملها، وإن ادّعى صاحبها الذاتية المطلقة) هي عملية جمعيّة، هي عملية اشتباك مع المحيط، هي عملية مغادرة الفردانية إلى محيط الجماعة والجماعية. المبدع يستبطن ذاكرة وصوراً ومفاهيم جماعية في أي عمل إبداعي يقدّمه، يقرأ ما أنتجه آخرون من أدب وفكر، يشاهد مع قدّمه آخرون من مسرح وفنون، يصطدم يومياً مع آلاف الصور والمشاهد والمواقف والآراء في الشارع والمنزل والجامعة ومكان العمل. المبدع هو حالة هضم وإعادة تشكيل لكل ما يحيط به من ظواهر ومعارف، وبهذا المعنى، يكون المبدع ‘متحدّثاً’ باسم عصره حتى وإن كان هذا الحديث نقدياً حادياً أو عدمياً أو هدمياً. هذا الاستبطان هو عملية جماعيّة في أساسها، والجماعية هي نقيض الفردانية التي يعزّزها الاستهلاك. الجماعيّة هي نقيض الأنا التي تثبتها الرأسمالية في مستويات الوعي العميقة للفرد البشري ليتحوّل إلى فرد مُطلَق/مُستهلك مُطلَق، وتتحوّل رغباته الأنانية الفرديّة إلى هدف نهائي، ويتحوّل إشباعها إلى غاية نهائية. إضافة إلى ذلك، تعمل الرأسمالية على معاداة التفكير النقديّ وتثبيط إثارة الأسئلة. المستهلك المثالي لا يَسأل، بل يَتلقّى فقط، وتتماثل الرأسمالية في ذلك مع الفكر الدينيّ الذي يُربّي أفراده على الطاعة والتسليم، ومع الفاشيّة التي تعتقد بحقيقة نقيّة واحدة. في خضم هذه التحوّلات في التي تركّز على الفرد وتُسقط الجماعيّة، تركّز على التسليم وتلغي التساؤل، تركّز على الأحادية وتلغي الحريّة، يُصبح الأدب والفكر وموضوعات الثقافة بمجملها زائدةً وهامشيّةً.
إضافة إلى ذلك، أنا أرى أن تأثير الميديا الاجتماعية كان كارثياً على الأدب والفكر لعدّة أسباب: أولها هو تعزيز الفردانيّة عبر تحويل كل فرد بذاته إلى ‘قوّة’ أو ‘نقطة تأثير مركزية’ يمارسها عبر إبداء رأي أو الترويج لموقف من خلال حسابه على الفيسبوك أو التويتر، طبعاً هذه ‘القوة’ أو ‘نقطة التأثير المركزية’ وهمية في الواقع، ومحدودة التأثير، وعاجزة عن التغيير دون تنظيم جماعي وأرضيات معرفية. السبب الثاني هو أن كل شخص صار يظن نفسه مفكّراً ومحللاً و’صاحب رأي’ دون الالتفات إلى المخزون الفكري والمعرفي الذي يمتلكه. هذا كان موجوداً سابقاً بشكل أقل، لكن الكلام الفارغ لم يكن يؤخذ على محمل الجدّ مثلما هو الآن على وسائط الميديا الاجتماعية حيث تنفرد اللايكات والنقاشات والمشاحنات تحت أسطر قليلة من الكلام الفارغ. السبب الثالث هو استسهال الكتابة الأدبيّة ونشرها في الميديا الاجتماعية، بل والحصول على تعليقات أو مراجعات من كتّاب آخرين (سفهاء أو جادّين) لأغراض العلاقات العامة أو التزبيط أو المقابل الجنسي. هذا كله يحطّ من شأن الابداع والثقافة وما يتعلّق بها.
لا أعتقد أن حالة الانحطاط السياسيّ مسؤولة بشكل كبير عن حالة الأدب والثقافة هذه. منطقتنا العربيّة تلتهب بالأزمات منذ فترة طويلة، من الإهمال والاضطهاد الذي عرفته أثناء الخلافة العثمانية، الى الاستعمار والتقسيم وإقامة ‘إسرائيل’، وصولاً إلى الأنظمة التوتاليتارية الفاسدة والفاقدة للسيادة والمرتبطة بمنظومة القوى الدولية بالمعنى التبعيّ، والانتفاضات عليها، والانقسامات والطائفية والفاشية والديكتاتوريات العسكريّة الصاعدة الآن. مثل هذه الأزمات هي المادة الخام والمحرّض الأول على تقديم مادة فكرية وإبداعية هامّة. الفكر والإبداع بشكلهما الثوريّ (التغييريّ في الشكل والمحتوى) هما وليدا المعاناة والأزمات والمخاضات. هل الدقائق التسع التي أوردها أحد تقارير التنمية الثقافية العربية كمعدّل سنويّ للوقت الذي يمضيه المواطن العربي في القراءة خارج المناهج الجامعية والمدرسية هي السبب في ‘التراجع’ أم هي نتيجة ‘التراجع’؟ أنا أرى أن القصة مركّبة، لكن هذه القصّة المركبّة هي مادة المبدع والمثقف الأساسية، لا تؤثر فيه سلباً بل العكس. ومثلما تكون مواجهة المثقف للسلطة مهمة أساسيّة، فعليه أيضاً مواجهة الشعبويّة والانحطاط العام. مثلاً: قد يُنتج الانحطاط العامّ الاستهلاكي في الولايات المتحدة أشكالاً فنيّة يعتبرها الكثيرون انحطاطاً مثل حركة ‘البوب آرت’، لكن مثل هذا الانحطاط أنتج أيضاً شاعراً عبقريّاً مثل تشارلز بوكاوسكي، بينما كان اضطهاد السود في الولايات المتحدة سبباً رئيسياً لنشوء موسيقى البلوز والجاز ولاحقاً الراب وحركة الهيب هوب.
أعتقد أن أزمتنا الأساسية هي في انحطاط ‘المثقف’ نفسه، لا في الانحطاط العام.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Mohammad Al-Hreebat:

    للأمام عزيزي

إشترك في قائمتنا البريدية