نضع جانبا، لهذا الاسبوع، كل الاحداث والتطورات على ساحة منطقتنا المنكوبة باعدائها، والمنكوبة، اكثر من ذلك، بحكامها، لنركّز النظر على احداث وتطورات شبه الجزيرة الكورية، وآخرها تفجير كوريا الشمالية لقنبلة هيدروجينية تجريبية بقوة 250 كيلو طنا (الكيلو تعني الفا) من المتفجرات، أي ما يعادل 16 ضعفا من القنبلة الامريكية على هيروشيما اليابانية قبل ثمانية عقود، والتي تسببت بهزة ارضية بقوة 6.3 على سُلّم ريختر، حسب معاهد دولية متخصصة. نركّز النظر، فماذا نرى؟.
نرى ان اكثر دولتين في عالم اليوم، يمكن ان تشكّلا معاً تكاملا مثيرا للاعجاب والتقدير، هما دولتا كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية. لكن الاختلافات، بل ربما التناقض، بين نظامي الحكم في كلا الكوريتين، واخطر منه: الخلافات بين الدولتين، وباكثر دقة: الخلافات بين راعيات الدولتين، بل وباكثر دقة من ذلك بكثير: الخلافات بين راعية كوريا الجنوبية، امريكا، وكوريا الشمالية ومعاداتها، تجعل اقصر فتيل اشتعال حرب نووية مدمرة في هذه الايام، هو ذلك الفتيل المتفجر بين الكوريتين. ومن حسن الحظ ان «الاشتعال» في هذا الفتيل، ما زال مقتصرا على «اشتعال» لغة الكلام، وبعض لغات اخرى تتقنها امريكا، مثل لغة الحصار، ولغة فرض العقوبات، ولغة التضييق الخانق على التصدير والاستيراد، ولغة منع القروض من البنك الدولي وصندوق النقد، وغيرها من اللغات. لكن، ولحسن الحظ، فإن الامر لم يصل بعد حد التحدث بلغة القوة العسكرية.
اقول: لم نصل بعد مرحلة التحدث بلغة القوة العسكرية والحرب. لكن شاعرنا العربي نصر بن سيّار الكناني، آخر ولاة الأمويين على خراسان، ابدع في التعبير، قبل ثلاثة عشر قرن، عندما حذر من امكانية انهاء الخلافة الأموية، عندما تتحول لغة كلام ابو مسلم الخراساني الى لغة القوة العسكرية فقال: ارى خلف الرماد وميضَ نارٍ / ويوشك ان يكونَ لها ضِرامُ.. فإنّ النّارَ بالعودَين تُذكى / وإنّ الحرب اولها كلامُ.. وإنْ لم يُطفِها عقلاء قومٍ / يكون وقودَها جُثَثٌ وهامُ.
من الادب والشعر نعود الى السياسة: قائدا القوتين: القوة الأكثر انتشارا وتقدما وتقنية وهيمنة في العالم، دونالد ترامب، رجل لا يملك احد قدرة اكيدة على تقدير ما قد يتخذه من قرارات، فهو «غير مٌتوقّع». وثبت ذلك من خلال متابعة تصرفاته في التعيين وفي الإقالة لإشغال مواقع ومناصب في البيت الابيض، منذ اصبح سيده قبل ثمانية اشهر، رغم انه «البيت» الاكثر تأثيرا في كل ما يخص حياة مليارات من البشر. ويقابله في كوريا الشمالية قائد الدولة الأكثر عزلة في العالم، كيم جونغ اون، رجل لا يملك احد قدرة اكيدة على تقدير ما يمكن ان يتخذه من قرارات، فهو، ايضا، «غير متوقع». وثبت ذلك من خلال متابعة العالم لتصرفاته في الاسابيع القليلة الماضية. فهل ومتى قد ينزلق ايٍّ منهما من لغة الكلام والتهديد والتجارب والمناورات الى لغة القوة العسكرية؟. وهي في هذه الحالة قوة عسكرية نووية مدمرة، ولن تبقى روسيا ولا الصين، ولكلتيهما حدود مشتركة مع كوريا الجنوبية، على الحياد، خاصة اذا كان ترامب هو من يشعل فتيل الحرب.
لكن، لماذا كل هذا التوتر والتوتير واللعب بالنار؟. فالشعب الكوري كان موحدا على مدى تاريخه القديم والحديث. موحدا احرز انتصاراته. وموحدا كان في الهزائم التي مُنِيَ بها. آخرها هزيمته امام اليابان، التي استعمرته بعد انتصارها على روسيا القيصرية في مطلع القرن الماضي، ولم ينته الاستعمار الياباني الا عندما اندحرت اليابان في الحرب العالمية الثانية، وعندها، في العام 1945 تقاسمت القوتان المنتصرتان الاعظم: امريكا والاتحاد السوفياتي، اراضي شبه الجزيرة الكورية، فاحتفظت امريكا بالجزء الجنوبي من شبه الجزيرة، وهيمن الاتحاد السوفياتي على الجزء الشمالي الذي يحاذيه. وفي العام 1948 رفض حاكم الشمال كيم إل سونغ (جد الرئيس الحالي لكوريا الشمالية) الاشتراك في الانتخابات التي اقتصرت على «كوريا الجنوبية»، ثم وقع المتوقع، ونشبت «الحرب الكورية» سنة 1950، وانتهت الى هدنة، (وليس اتفاقية سلام)، واستمر التنافس والصراع وتبادل الاتهامات والتهديدات في مسلسل متواصل الحلقات حتى يومنا.
خلال هذه العقود السبعة الماضية سارت الكوريتان في اتجاهين متناقضين:
ـ ركّزت كوريا الجنوبية على موضوع التعليم (وهو الاهم على الاطلاق)، فانتج لها هذا التركيز صناعة وتقدما تكنولوجيا لا سابق له، وبعد ان كان معدل دخل الفرد فيها حتى الستينيات مساويا لمعدل دخل الفرد في مصر، قفز في كوريا الجنوبية هذه الايام ليعادل سبعة اضعاف دخل الفرد في مصر. لا يخلو شارع في سوق أي مدينة في العالم من محلات ومنتجات سامسونغ الكورية، ولا بيت في العالم يخلو من اجهزة هواتف ذكية صنعت في كوريا، ناهيك عن سيارات هيونداي، وغيرها من المنتجات الكورية الجنوبية، التي وفّرت لسكانها (نحو 51 مليون نسمة) امكانية العيش برخاء، تحلم (فقط تحلم) بمثله شعوب كثيرة في العالم.
ـ ركّزت كوريا الشمالية على ايديولوجية «الزوتشية»، وهي كلمة كورية تعني «الاعتماد على الذات»، فاقامت نظام حكم ديكتاتوري شديد القسوة، وشكلت جيشا هو الرابع في العالم من حيث عدد جنوده. وعملت ونجحت بشكل باهر في الصناعات العسكرية التي مكنتها من تصنيع وامتلاك صواريخ باليستية عابرة للقارات، وقنابل نووية، وهيدروجينية مؤخرا. ولكن في ظل حالة فقر مدقع يعاني منه سكانها (نحو 26 مليون نسمة).
تمنع امريكا كوريا الجنوبية من تصنيع عسكري ينتج اسلحة تحمي مصانعها ومزارعها. وتحاصر امريكا كوريا الشمالية فتحرمها من توفير وتأمين الطعام وحياة رفاهية لشعبها.
تراكتور كوريا الجنوبية الذي يوفر حياة كريمة لشعبها غير محميٍّ ذاتيا، وهو رهينة للقوة العسكرية الامريكية التي تحميه، وليس مجّانا بالطبع.
دبابة كوريا الشمالية لا تثمر، لا تسمن ولا تغني من جوع.
تراكتور الجنوبية ودبابة الشمالية معا، (وفقط معا)، يتكاملان ويوفران عيشا كريما واستقرارا وازدهارا. وهذا ما ترفض امريكا ان ينعم به الكوريون.
يتحدث شمعون بيرس في كتاب مذكراته الاخير، الذي صدر هذا الاسبوع باللغة الانكليزية، عن المراحل الاولى لتفكير اسرائيل باقامة المفاعل الذري في ديمونا في النقب. يقول بيرس في مذكراته هذه، كما اوردتها جريدة «يديعوت احرونوت» انه هو وبن غوريون كانا وراء الدفع لاقامة المفاعل، بتشجيع فرنسي. ولكن كانت هناك اعتراضات على المشروع: من غولدا مئير، خشية تسبب ذلك في تردي العلاقات مع امريكا، ومن ايسر هرئيل، رئيس الموساد، خشية من رد فعل الاتحاد السوفييتي، ومن رئيس لجنة الخارجية والامن في الكنيست (البرلمان) الاسرائيلي، الذي ارجع اعتراضه على بناء المفاعل الذري الى خشيته من كلفته الباهظة «التي من شأنها ان تترك اسرائيل بلا خبز ولا أرز» على حد تعبيره. لكن اسرائيل ضمنت القنبلة والخبز، بفضل رعاية الغرب بشكل عام لها، ثم بفضل رعاية امريكية غير مسبوقة. ولكن حتى عندما حاولت اسرائيل الخروج على الشروط الامريكية، الزمتها امريكا بوقف محاولاتها لأن تتولى هي بنفسها تصنيع الطائرة الحربية «لافي» قبل ثلاثين سنة، كما منعتها لاحقا من تنفيذ عقد مع الصين بخصوص معدات عسكرية جوية، ودفعت اسرائيل غرامة قيمتها مليار دولار للصين، نتيجة تراجعها عن اتمام تلك الصفقة.
لا يمكن ضمان مستقبل الشعب والأُمة بدون تراكتور يحرث ويزرع ويحصد، وبدون مزرعة تنتج، وبدون دبابة تحمي. وكل هذا مرهون بالتعليم وبمستواه: من الكوريتين الى مصر، ومن آسيا الى افريقيا وأمريكا اللاتينية ايضا.
٭ كاتب فلسطيني
عماد شقور
كل الإحترام وألتقدير أخي الغالي عماد , فما تفضلت به هو ألصحيح
أما نحن (العرب) فلا دبّابة لنا و لا جرّار. نشتري و سنظلّ نشتري ما يترك الغرب لا ما نشتهي ! و نشتري لا لنجير أو نصون بل لندمّر و نخون و نعين المفترئ !