ثلاثة أحداث ربما يبدو في الظاهر ألاّ رابط بينها. إلا أنها تدل، مجتمعة، على أن الانتقال الديمقراطي في تونس لا يزال أسير رداءة ماض تسلّطي لا يريد أن يمضي. الحدث الأول هو تصويت البرلمان على قانون المصالحة الذي أعفي بموجبه موظفو الدولة في عهد ما قبل الثورة من المحاسبة أو المساءلة أو حتى المصارحة. الثاني هو قرار ترحيل المثقف المغربي هشام العلوي من تونس ومنعه بذلك من المشاركة في ندوة بحثية دعي إليها بصفته باحثا أكاديميا في العلوم السياسية في الجامعات الأمريكية. أما الحدث الثالث، وهو متكرر، فهو طمر جثث الغرقى من المهاجرين الأفارقة في مكب قديم للنفايات في مدينة جرجيس بسبب عدم اهتمام السلطات المحلية بأمرهم.
والواقع أن مأساة المهاجرين بطرق غير قانونية من سواحل المغرب العربي إلى الجزر الإيطالية مأساة صامتة، وأن ضحاياها لا بواكي لهم. فهم يهلكون بلا اسم ولا عنوان. إنها مأساة مستمرة ومرشحة للاستمرار في ظل تذبذب السياسات الأوروبية واستفحال البؤس وانتشار عصابات التهريب والاستعباد. فما هو الواجب إزاء هذا الواقع؟ إنه يتمثل في ما أعلنه المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن كرامة الإنسان لا تنتفي بوفاته. حيث ندد المنتدى، الخميس، بالطريقة اللاإنسانية في التعامل مع جثث المهاجرين التي تطفو على سواحل جرجيس بعد مصرع هؤلاء المهاجرين في حوادث غرق لمراكب الهجرة غير النظامية التي تنطلق في معظم الحالات من السواحل الليبية.
وكان المنتدى قد نشر قبل أسبوع ريبورتاجا وصفت كاتبته ريم بوعرّوج كيف أن الغرقى من المهاجرين يتعرضون في ليبيا لشتى أنواع الظلم والقهر من خطف وتعنيف وابتزاز واغتصاب، وحتى للبيع عبيدا تتاجر بهم وتتكسب منهم مختلف الميليشيات. ثم ما إن يتمكنوا من الفرار من الجحيم الذي أطبق عليهم في ليبيا حتى يبتلعهم الموج ويبتلع معهم أحلاما ساذجة بغد مشرق وعيش كريم. ولكن المأساة لا تتوقف عند حد الغرق، بل إنها تستمر حتى بعد ذلك، نظرا إلى أن المصير الذي ينتظر جثث هؤلاء الهلكى من المهاجرين لا يليق بالكرامة الإنسانية. وتروي الكاتبة كيف أن صيادا تونسيا اسمه شمس الدين قد تطوع، منذ عشرة أعوام، لدفن جثث الضحايا التي تجرفها الأمواج وأخذ على عاتقه بمفرده مسؤولية محاولة ضمان كرامة هؤلاء البشر الذين يبدو أن السلطات التونسية لا تعبأ بأمرهم. ولهذا فقد طالب المنتدى الحكومة التونسية بتخصيص قطعة أرض كمقبرة لائقة بهؤلاء الضحايا، والتنسيق في ذلك مع المنظمات الوطنية والدولية، وجمع المعلومات المتعلقة بهم وتسجيلهم في قواعد بيانات مركزية تتيح لعائلاتهم معرفة مصيرهم.
هذا المسلك تجاه ضحايا الهجرة غير النظامية هو من بقايا رداءة ماض لا يريد أن يمضي. تماما كما أن المصالحة التي احتفى بها المحتفون بعد إجازة مشروع قانونها في البرلمان الأربعاء هي من بقايا رداءة ماض لا يريد أن يمضي. فقد حرصت الأحزاب المساندة لقانون المصالحة على تقديمه باعتباره صيغة حضارية من الترفع عن الضغائن ومن العفو عند المقدرة جمعا للشمل الوطني وتوحيدا للجهود من أجل البناء. ويا ليت الأمر كان كذلك حقا! صحيح أن الظرف السياسي لم يعد يسمح بتطبيق العدالة. فقد انقضت اللحظة التاريخية التي كان يمكن فيها للثورة أن تقيم العدالة وتحاسب المفسدين. ولكن أضعف الإيمان هو أن تعرف الحقيقة وأن يعترف المسؤول بجريرته، وأن تكون المصالحة قائمة على أساس المعرفة والتعلّم من التجربة، لا على أساس نكران الحقائق وغمط الحقوق ودفن الرؤوس في الرمال طلبا لنعمة الغفلة والنسيان.
أما أبرز شاهد على أن بقايا رداءة الماضي لا تزال تفعل فعلها في العقليات، فهو قرار ترحيل المثقف المغربي الأمير هشام العلوي إلى باريس الأسبوع الماضي. ماذا جنت تونس من هذه المجاملة، التي لا لزوم لها، لأنظمة المغرب أو السعودية أو الإمارات (باختلاف الروايات)؟ ولماذا تجتهد البيروقراطية في الإخلال بواجب الضيافة نحو مثقف وأكاديمي أصيل هو من أصدق الأصوات وأنفذها في الإشادة بالتجربة التونسية نموذجا يثبت أن المجتمعات العربية قادرة، لو زالت الغشاوة عن بصائر الحكّام، على الخروج من ضيق الحكم الفردي التسلّطي إلى سعة الحكم الديمقراطي الليبرالي.
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي