الأردن: مواجهة مع ثلاثية «المعيشي والعنف الاجتماعي والسلاح» وتهامس في مناخ «1989»

عمان ـ «القدس العربي»: واحد على الأقل من تجليات المصارحة الملِكِية بخصوص الملف المالي والاقتصادي منتصف الأسبوع الماضي بين أيدي الأردنيين هي تلك المتعلقة على الأرجح بتجنب سيناريو التغيير الوزاري والحرص على مساندة الحكومة الحالية ومساعدتها حتى تبقى.
الجملة الاعتراضية الملِكِية المهمة التي أبلغت الراي العام مباشرة وبصورة صريحة طي ملف المساعدات الخارجية وتدشين مرحلة الاعتماد على الذات، هي جملة سياسية عميقة وتكتيكية في آن واحد، وأهم دلالاتها هو تقدير مطبخ مركز القرار المسبق بأن الحكومة الحالية تحتاج للمساعدة أو على حد تعبير مسؤول سابق لا يمكنها وحدها القيام بمهمة محفوفة بالمخاطر.
لذلك تنضج فورا الظروف الموضوعية التي تحتاج من الحكومة الآن وبعد جرعة المساندة الملِكِية المهمة الانتقال فورا إلى صياغة برامج مرحلة الاعتماد على الذات.. هنا واجب حكومي تلقائي، لأن الرأي العام يريد ان يرى خطة محددة بسلبياتها وإيجابياتها لسيناريو الاعتماد على الذات، وهي خطة تنفيذية تعلم «القدس العربي» أن مؤسسة القصر تضغط على الحكومة ليل نهار لإنتاجها وإنجازها.
ذلك لم يكن مألوفاً أو مسبوقا في سجل تشكيل الحكومات والنخب في الأردن، الأمر الذي يعني مسألتين في غاية الأهمية. تتمثل الأولى في أن حظوظ رئيس الوزراء الحالي الدكتور هاني الملقي كبيرة وجدية حتى أنها تطلبت تدخلاً ملِكِياً لمساعدتها. والثانية توحي ضمنًا بأن مركز القرار يرصد حساسية الموقف بالنسبة للمجتمع، فيقرر المصارحة بعيدا عن فلسفات واجتهادات الوزراء التي تكون غير مدروسة في كثير من الأحيان، بما في ذلك اجتهادات وزير المالية النافذ جدًا عمر ملحس، الذي ترك وظيفة في القطاع الخاص بدخل كبير جدًا لإشغال وظيفة حكومية جدلية في ظرف معقد.
لذا يمكن القول: إن حديث القصر الملِكِي عن الشأن الاقتصادي والمساعدات المالية شكل علامة فارقة في الوقت الذي يرى فيه بعض الخبراء والساسة أن استعانة الحكومة هنا بالمفردة الملِكِية قد لا تعتبر أو تعبر عن نصيحة منطقية أو راشدة من قبل بعض المستشارين لمركز القرار وهو رأي يسقط من حساباته عمليا تلمس حاجات الناس وأوضاع الشارع.
في كل الأحوال يبدو أن مؤسسة المرجع ترى في رئيس الوزراء الحالي ما لا يراه الشارع الذي يهتف ضد الحكومة، مع أن المجازفة كبيرة برئيس وزراء جديد، قد يضطر بحكم الواقع الموضوعي اليوم لرفع الأسعار والضرائب، الأمر الذي ساهم في الواقع بصعود سيناريو عدم وجود بديل جاهز أو صعوبة المجازفة مجددا ببديل محتمل. في كل الأحوال؛ الجملة التكتيكية الملِكِية الهادفة تسند أمام الشارع حكومة الرئيس الملقي، بوضوح في خطوة نادرة الحدوث وتغادر بنسبة معقولة منطقة المألوف في إدارة الحكم والحكومة في الأردن. حصل ذلك على الأرجح لسبب أعمق بكثير مما يلمسه المواطن على سطح الحدث. لكن دائرة الحظوظ بالنسبة للحكومة قد لا تكتمل هنا، ليس فقط لأن الملحوظة الأبرز على طاقم الملقي الاقتصادي تتمثل في أنه لا يقدم وصفة حقيقية مقنعة للإصلاح الاقتصادي، وهو يكرر أسطوانة الحديث عن الأزمة النقدية والإصلاح المالي حتى يخف شعور المواطن بأن الدولة تطال جيوبه فقط عند حصول ازمة مالية. ولكن أيضا لان حساسية الشارع تعاظمت بشكل غريب خلال الخمسة أسابيع الماضية، وهي تتعاطى مع تسريبات صحيفة الحكومة لتعديلات قانون الضريبة الجديد. تلك الحساسية تعبر عن نفسها اليوم بأنماط مقلقة، قد تكون تصعيدية لأن الحديث عن ضريبة دخل على كل راتب في القطاعين العام والخاص يعني التبرع بتأسيس مساحة اعتراض نادرة في بنية الطبقة الاجتماعية التي تشكل طوال التاريخ العصب الحيوي في هيكلة الدولة وبنية مؤسسة النظام، ويشمل ذلك بطبيعة الحال أبناء العشائر وموظفي القطاع العام والعسكر أيضاً.
مثل هذه الملامسة الحساسة لم تكن تحصل في الماضي، عندما رفعت الحكومات المتعاقبة الأسعار والضرائب عدة مرات، فالكثير من شرائح المجتمع الفقيرة كانت تعتبر نفسها في منأى عن فرض ضرائب، وبقيت في دائرة تآكل الدخل ومحدوديته وتكلفة المعيشة.
تطبيق شعار من طراز ضريبة على كل دخل وعلى نجاعته العلمية صعب جدًا، ومعقد في الحالة الأردنية، ليس فقط لأن الحكومة لا تقدم في الواقع برنامج رفاه اجتماعي حقيقي، بل لأن الخدمات الاساسية أصلاً تتراجع، ولأن الانتقال من نمط الدولة الريعية إلى دولة الضريبة والخدمة مفاجأة جديدة للأردنيين لم تختبر سابقاً. ومن هنا حصرياً يمكن قراءة مستجدات الاعتراض الشعبي خصوصًا في الاطراف والمحافظات، حيث بدأ اللغط والجدل ورصدت مؤشرات حراكية، حيث تصدر اليوم بيانات بسقف مرتفع من أوساط حليفة للدولة طوال الوقت تاريخيًا، مثل المتقاعدين العسكريين وبعض أبناء العشائر.
العلامة الفارقة في منسوب اعتراض شعبي ملموس حتى الآن لا تقف عند الاحتجاج النسبي في الأوساط الحليفة لمؤسسة القرار اجتماعيًا، بل تتجاوز تُجاه شعارات معيشية مباشرة، هذه المرة من دون تأثير خارجي، مع القلق الذي تنتجه أصلاً ظواهر العنف الاجتماعي، ووجود كميات كبيرة من السلاح في أيدي المواطنين.
تلك أجواء ومناخات على مستوى الهمس الأمني والسياسي، بدأت تنطوي في أعماقها على رسالة تحذير مماثلة لما حصل عام 1989 .. هنا بصورة مركزية مربط الفرس، في استعراض التصعيد الكلامي والعشائري ضد الحكومة وبرنامج ما يسمى بالإصلاح المالي.

الأردن: مواجهة مع ثلاثية «المعيشي والعنف الاجتماعي والسلاح» وتهامس في مناخ «1989»

بسام البدارين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية