زياد دويري يستعيد الماضي ساخنا

حجم الخط
0

■ في أيّ زمن يضعنا هذا الفيلم؟ هذا التساؤل تردّد مرّات، لا بد، في أذهان مشاهديه. هل إننا في بيروت الحالية، بيروت 2017؟ أم أننا يُرجَع بنا إلى ما قبل 1982؟ في كاراج السيارات الذي يديره طوني حنا كانت الحماسة ضد الفلسطينيين على أشدّها، معزَّزة بصوت بشير الجميّل، المدوي في أنحاء الكاراج، ثم بصورته المعلّقة على الحائط وكذلك على شاشة التلفزيون. وها هو طوني يستجيب بقوّة لتلك الحماسة المحرِّضة، بنبرته كلما تكلّم، كما بقوة جسمه التي حرص الفيلم على إبقائها متحدية مستنفرة.
إنه احتقان الماضي يستعاد الآن، أو إنه احتقان الحاضر يذهب إلى الماضي. لم يشأ زياد دويري أن يجري تبديلا بين الأطراف المعادية فيُحلّ السوريين، أو لبنانيين آخرين، محل الفلسطينيين. لم يشأ أن يمسك الحديد ساخنا حارقا إلى ذاك الحدّ. فليذهب إلى الماضي إذن، إلى الصفحة التي وإن لم تُطو تماما، إلا أنها باتت واحدة من عناصر تنازع عديدة، كما صارت في الخلف، بعد أن تقدّمت عليها أطراف مواجهات أخرى جديدة.
مع الفيلم نحن إذن في حقبة ماضية من حقب الحروب الجارية المتداخلة والمتعاقبة في لبنان. في أحيان، فيما نشاهد الفيلم، رحنا نتساءل كيف يمكن استعادة الماضي طازجا إلى هذا الحدّ. أقصد أن يوتّر الفيلم مشاهديه، فيما هو يضعهم تحت وطأة مشاعر عنيفة في انحيازها إلى واحد من طرفي التنازع فيه، القوات اللبنانية والفلسطينيين. كنا نعلم، ونحن في الصالة، أن طوني حنا، القواتي، مستفِزّ لنصف مَن فيها (إن كان الحضور في الصالة متساويا، نصفا لنصف، بين هؤلاء وأولئك)، كما لنصْف الشبان الفلسطينيين الحاضرين لتأييد الفلسطيني ياسر. ذاك أن الكراهية حاضرة لبدء العداوة، في الماضي كما في الحاضر. وها هو طوني القواتي يبدو مستعدا للقيام بشيء ينفّس به عن كراهيته المتهيّئة سلفا. إنه مستعدّ لأن يبدأ، معبّأ بمشاعر لم تفتر ولم تضعف، على رغم انقضاء نحو 35 سنة على انتهاء الحرب مع الفلسطينيين. كان ذلك المزراب المكسور الخارج من شرفة بيت طوني، رغم قلة أهميته، كافيا لبدء تلك المواجهة بين الطرفين، القواتي اللبناني والفلسطيني، هكذا على غرار ما هو راكز في وعي اللبنانيين من أن حربهم الأهلية في 1860 اندلعت بعد أن اختلف ولدان في جبل لبنان أثناء ما كانا يلعبان بالكرات.
ليس المهم إذن أي واقعة يستعيدها لفيلم، أو عن أي زمن طالما أن العداوة سابقة على كليهما. وقد كانت هذه (العداوة) مساعدة للمخرج على أن يحظى فيلمه بنقاش واسع هو تتمة لنقاشات المحامين والقضاة الذين حضروا في المحكمة لتبيان من هو الجاني، ومن هو الضحية. ما قام به زياد دويري هو الذهاب إلى الحد الأخير من دأب السينما اللبنانية على تناول مسائل عامة ومحورية في حاضر لبنان وماضيه. لكن دويري ذهب في ذلك إلى ما لم تجرؤ السينما اللبنانية على مقاربته والإفصاح عنه. ذهب إلى القاع، إلى الكلام الذي يدور في الشوارع المتعادية، بل إلى تسمية المشاعر ذاتها التي تبقي العداوة حيّة بين المتعادين. وهو نجح أيضا في إبقاء الفيلم متمحورا حول بطليه مع نقله إياه إلى محاورات ومطالعات حول مواقف الطرفين المتعاديين. تحوّلت المحكمة التي استحوذت على حيّز لا بأس به من الفيلم إلى نوع من منبر عام للمنافحين عن السياسات. المحامي القواتي لم يترك موقفا ولا حادثة ولا حجّة لدعم موقفه، بما في ذلك فتقه لجرح بلدة الدامور، الذي قضى فيه خمسمئة مسيحي، حسب قوله. وقد عرض فيلم دويري فيلما وثائقيا عن مأساة الدامور من ضمن مرافعة المحامي القواتي، أي ما يعني أيضا من ضمن فيلمه نفسه. كما أنه أبقى بطله الآخر، ياسر، محاطا بكل ما يحمله الضمير العربي من تعاطف مع فلسطين وقضيتها.
باستثناء الأفلام التي تصدرها الأحزاب والجمعيات السياسية عن تاريخها وأنشطتها، أي الأفلام الدعائية الحزبية، لم يصل فيلم في جرأته إلى ما وصل إليه «قضية رقم 24». لكن إلى جانب هذه الصراحة أدى هاجس تبرئة الجميع، ومساواة بعضهم ببعض خوفا من الانزلاق نحو التحيّز (فيصير الفيلم عندها دعائيا، شأن ما تنتجه الأحزاب)، بل أدى البحث عن جوامع مشتركة بين المتحاربين، إلى إضعاف قوّة الفيلم. يكاد يكون بلا معنى ذلك المشهد الذي قام فيه أحد المتعادييْن بمساعدة الآخر على إصلاح العطل في سيارته. كان ذلك خارج السياق، وغير موصول بسابق له ولا بلاحق. وهو بدا ساذجا في نطاق تلك الصراحة، في وصف الحال الذي كان عليه الفلسطينيون والقوات اللبنانية، على ما أظهر الفيلم.
كانت تلك التبرئة وكذلك المسعى نحو البقاء على مسافة متساوية من الفريقين، حاجبين للدلالة على المآل الكارثي التراجيدي الذي ينبغي استخلاصه من توطّن الكراهية في نفوس الجميع. لماذا هذه الصراحة في كشف الماضي ما دمنا سنطوي صفحته بتعطيل قوة الخلاف فيه، أي بالحرص على إبقاء فريقي ذلك النزاع راضيين بالقدر نفسه، أو محتجّين بالقدر نفسه.
*تصدّر فيلم زياد دويري الإيرادات في دور العرض السينمائي في بيروت منذ بدء عرضه. كان قد سبق العرض التجاري افتتاح للفيلم عرض في ثلاث صالات ضخمة لسينما سيتي أمّه، حسب ما ذكر في الإعلام، ألف ومئتا مشاهد. أدى دور البطولة في الفيلم عادل كرم وكامل الباشا وريتا حايك وكريستين سلامة.

٭ روائي لبناني

زياد دويري يستعيد الماضي ساخنا

حسن داوود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية