أزمة الوعي السياسي الوطني منطلق الوعي بحركة الذات

حجم الخط
0

يتطلب النظر في أزمة الوعي السياسي الوطني في العالم العربي، من الناحية الفكرية والتنظيرية، الوقوف عند بعض المفاصل الحسّاسة، التي أحسبها تدخل ضمن النّسيج البنيوي للتفكير في الثورة والوطنية والحزب ومنظومة الحكم، التي تداولت على منصة تسيير شؤون الدولة ودواليب السلطة.

الكولونيالية وزمام المبادرة

تكرّست الذات الوطنية خلال التاريخ المنطقي لوجودها، ضمن هوية ثابتة تنتمي إلى الفضاء الجغرافي والتاريخي، الذي شكّل إطارا مرجعيا للهوية، وبالتالي تصبح العلاقات النّاظمة لسيرورة ومسار الكتلة الوطنية، هي تلك النّابعة ممّا وصل إليه الوعي الوطني، من عناصر قابلة لأن تدير شأنه العام والسياسي، ضمن علاقات الكيان الاجتماعي العام، فما يسميه بشير عمري «بالشّعور الفطري بالوجود الذّاتي الجمعي للجزائريين» يدخل ضمن الذات الواعية، بما توفر لديها من أدوات لتسيير واقعها، وبالتالي تكون المحمولات الفكرية والإجرائية التي يمكن أن نفهمها من ترسيمه للمآل الفكري والوعي اليومي للذات الوطنية، من خلال ما يضيفه في هذا السياق من حضور هذا «الشعور الفطري» «وفق مرجعيات قديمة وخالية من كل الروابط والارتباطات ذات المعنى السياسي بشكل حديث»، يمكن أن يفتح القوس لتحليل الظاهرة السياسية والوجودية الوطنية، من خلال الرّؤية لهذه الذّات خارج الأطر المرجعية الثابتة، وهو ما يناقض الحضور الوطني داخل الذات، لأنّ صدمة الاستعمار كانت الفتيل الذي نبّه الذات الوطنية إلى ضرورة تطوير ميكانيزماتها المعاشية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، بما يجعل الوجود السابق للكولونيالية فعالا، بما توحي به ضرورات الرّخاء والأمن وعناصر القوّة، التي كانت متاحة وفق المجال الوجودي الثابت والذاتي. وهنا تبدا الأسئلة المحرجة للوعي والعقل الوطنيين، حيث إلى أي مدى يمكن تثبيت الكولونيالية كعنصر داخل اللحمة السياسية والثقافية الوطنية؟ وهذه العلاقة الملتبسة التي تتأسّس صراعيا في مواجهة الهيمنة الامبريالية التي تريد أن تفرض نمطا واحديا، بدأ مع حركة التوسع الاستعماري، والبحث عن مجالات حيوية، وانتهى إلى ما يشبه الهيمنة الثقافية، واكتساح الهويات في ما يعرف بالعولمة، لأننا نريد كذوات وطنية أن نواجه سؤال الأنا في مواجهة الأنت، ولعله تتوجّب الإشارة إلى الإشكال اللغوي ومشكل الهوية ومعايير التعامل الحداثية مع شؤون الحكم والدّولة الحديثة، لأنّ الإشكال في علاقتنا مع الغرب، حسب هشام شرابي يبرز في ما «نستطيع تحقيقه والقيام به داخليا وذاتيا، وبمقدار ما ننجح في تغيير أنفسنا، نستطيع مواجهة الغرب الند بالند».

فلسفة الثورة ورشدانية الانطلاق

تمثل الثورة مهما كانت بسيطة أو كبيرة حدثا يمسّ الذّات في سكونيتها المستسلمة للواقع، وما يجعلها تعي ذاتها، يمكن تسميته بفلسفة النّهوض والثورة ضد واقع ما، والوعي الذي حرّك الذّات الوطنية، سواء في فرديتها أو جماعيتها، إنّما يمثل تلك الحركة التي انتفضت ضد وجودها الخامد، الذي شلّ حركته الحضور الاستعماري المهيمن والغاصب، فحركة الذّات لم تكن في السابق فارغة من الشّعور بالمأساة الوطنية التي صادر الاستعمار تاريخها وجغرافيتها، أي صادر الهوية الوجودية للذّات الوطنية، فتحرّكت هذه الأخيرة، لا لكي توفّر الخبز للعائلة معدومة الدّخل، ولكن لكي تحرّر مبادرة هذه العائلة لتصنع مصيرها، ضمن ما توفّر من وجوب ترسيم حدود الفضاءات الثورية، كرمز للجغرافيا المحرّرة، وتثبيت عناصر الذّات كما كانت في السابق محرّرة تعيش وجودها وفق عناصر المكان والزّمن الوطنيين، أي إنّها كانت تمتلك الوعي والدّور الاجتماعيين، كما يثبتهما هشام شرابي بالنسبة للمثقف الفاعل، ففلسفة الثورة لا يمكن أن نربطها بالفعل الثقافي، ذي البنية المتعالية، سواء تُنظِّر للثورة قبلا أو تحلل وتكرّس هويتها في ما بعد، فما يذهب إليه بشير عمري من خلو الثورة من مرتكز فلسفي في قوله: «وعليه يظل من الأهمية بموضع التأكيد على أنّ منشأ السياسة في الجزائر كان نضاليا ضد عدوّ خارجي، وعليه انبنت ثورة التحرير، وهو ما يبرّر خلو هذه الثورة من الفكرة الفلسفية..» إنّما يوحي بأنّ الثّورة قامت في الفراغ وآلت إليه، لأنّ الدولة الوطنية بعيدا عن مرتكزات الحكم وتقلبات السلط، تعتبر فكرة جوهرية في مآلات الترشيد الوطني، ما بعد الكولونيالي، أي إنّ ما يميّز الفترة ما بعد التحرّرية هو علو شأن الصّفة الوطنية بل تغطيتها على كل الأطر الواصفة للحالة الوجودية اليومية والمعيشة، فالتأكيد على مفهوم السياسة المنبثق من النضالية ضد المستعمر، يكون وصفا حقيقيا، لكنّه يبدو لي أنه يجانب الصواب، حين نعزو إلى هذه الصّفة سبب إخفاق الفعل السياسي، بدعوى خلوه من الفكرة الفلسفية، لأنّ النّضال ضد المستعمر يمثل في حد ذاته فلسفة، فنضال غاندي بهذا المفهوم يظل لا فلسفيا حيث لم يتخذ شكل العنف الثوري، فإن تتأسّس الثّورة ضد المستعمر على العنفية العسكرية، يحدّد شكل الوعي الفلسفي «تنظيريا» في تمرّد الذات واستعصائها على الهيمنة، أي توحّدها الكامل مع فكرة الحرية، وليس هناك ما هو فلسفي أكثر من المضمون الوجودي للحرية، وعادة في الثورات التي تحدث نتيجة الضغط المهيمن للمستعمر، تحمل بذور فلسفتها ولو البسيطة في عمقها، وهنا قد يبدو أنّني أتكلم عن الدافع، لكن الدافع في حد ذاته بالنسبة لي هو المحرّك الأساس لترتيب رؤية حول الثورة من قبل الراصد لها، وحتى الثائر حينما يتكلم ببساطة الحامل للبندقية والغضب الثوري، يتكلم من موقع الحلم المقبل في جوهر حركته وفعله المناهض للهيمنة والاستعباد.

الوعي بالذّات ونضوب المجال الحيوي للسياسة

حقيقة، إنّ الفعل السياسي الوطني تداولته منذ انبثاقه الأوّل تجاذبات الحراك والحراك المضاد، فالنوفمبرية في الجزائر مثلا أسّست لما يمكن تسميته بالسلوك الواعي للتحوّل، حيث أزمة مصادرة الهوية من قبل الاستعمار، كانت كفيلة بأن تستدعي الذّات الوطنية في مجموعها، لمواجهة خطر تدمير بنية الحضور على مسرح الوجود، فالاصطفاف داخل الكيان الواحدي كان معبّرا عن دلالة التنوّع والتعدد، الذي يجابه بنبض مختلف تعدّد التمظهرات الاستعمارية من داخل الواحدية، فمنطلق الحزبية الواحدية لم يكن منبنيا على مصادرة الوعي والرّغبة التعددية، التي كانت موجودة مسبقا على مسرح الحركة الوطنية، متمثلة في الأحزاب الوطنية الثورية، لكنّها استمرّت كبرنامج لهوية الدولة الوطنية والقومية، التي تكرّست على ربوع الجغرافيا السياسية العربية، مبرّرة وجودها بالخطر الخارجي وتهديد الوحدة الوطنية، وهو ما أحدث شرخا وجرحا عميقين في الذات الوطنية، التي تربّت تاريخيا على التعدّد، حتى القبيلة في فكرتها التاريخية كانت منبنية على تعدّد الرأي واختلاف الطروحات، لهذا نجد المشاريع المنضوية تحت لواء الثورة أو الانتفاضة، تستند في خلفياتها الانبثاقية على ركائز التغيير الجذري، وهو ما يتعرّض عادة للمصادرة – لأنّ فلسفة الثورة أو الانتفاضة، تنطلق من حلم المشاركة – وهو ما يعسّر من الولادة الديمقراطية، ويشكل أزمة بنيوية على مستوى الممارسة السياسية، وتحديا بالغ الحدة بالنسبة للعقل السياسي الوطني، فالشرارة المفجّرة لفعل الثورة التحريرية أو بالنّسبة لانتفاضة أكتوبر 1988 في الجزائر، كانت بسيطة في اشتعالها لكنّها متوهّجة في سطوعها، بفعل الرّغبة العميقة للفرد في تحقيق مطلبه الوجودي في الحرّية والكرامة والتعددية والخبز النّظيف.
كاتب جزائري

أزمة الوعي السياسي الوطني منطلق الوعي بحركة الذات

عبد الحفيظ بن جلولي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية