توجد أطروحة فلسفية تقف على طرف نقيض لطرف أطروحة جمالية رائجة. الرائجة تقول إنّ الجمال وعْيٌ بما لدى الآخر من جميل وأنّ الجماليّ أو«الاستاطيقي» في الفنّ هو سعي إلى الكشف عنه، ولذلك يُقرأ الغزل بما هو غرضٌ في ضوء هذه الوجهة من النظر، ويٌقرأ النّحت والرّسم وتقرأ السينما من هذا المنظار، فتسعى عين القارئ سعي عين الناظر تفتّش بقلب مبصر- ما استطاع القلب أن يبصر- عن آيات الجمال ومؤسِّساته وأساليبه وبراهينه. غير أنّ كثيرا من السّعي يُصبح أشتاتا حين يضحي الأمر تجريدا لقوانين الجمال، وعندئذ تحدث القطيعة بين العين الشّافّة والقلب المُرهَف من ناحية والعقل المغرق في التجريد والتقعيد من أخرى.
الأطروحة الفلسفيّة النّقيضة، التي سنبسّطها ههنا تبسيطا قد يَذهب بكثير من تفاصيلها المفيدة تقول إنّ الجمال الذي لدى الآخر (المرأة الجميلة في عين الشّاعر المتغزّل والتمثال المرمريّ لامرأة عارية عند نحّات) ليس إلاّ صورة من جمال الذات. بعبارة أخرى تقول إنّ الاعتراف بجمال الآخر ليس إلاّ مرحلة من الوعي بجمال الذات، وبالتالي فإنّ رسمه هو رسم للذات، والتعبير عنه هو تعبير عن الذات والوعي به إنّما هو وعي بالذات. هذه الأطروحة هي التي تعرف لدى الفيلسوف الألماني هيغل بالاعتراف.
يرى الفيلسوف هيغل أنّ وعينا بذواتنا يتطلب منّا أن نكون في أعين أنفسنا بسطاء عادلين مع ذواتنا، فنقصي من تلكم الذوات كلّ ما هو غيري منتم إلى الآخر، فالأنا هو وعي خالص بالذات والآخر أيضا هو وعي خالص بذات أخرى. ولكن لا تبرز ذات ولا ينقشع ضباب عن صورتها إلا بوقوفها إزاء ذات أخرى، فالوعي بالذات هو حركة تجريد لمزايا الذات لا يتمّ إلاّ بتجريد وعي بالذوات الأخرى :هو أن تنظر إلى نفسك على أنّها تجريد محْضٌ للوعي بالذات يتطلب أيضا أن تظهر نفسك لنفسك لا على أنّها أناكَ الخالصة بل على أنّها كذلك نفْيٌ محض لغيرك أو للأخر. وبديهي أنّ النفي والتمايز لا يتمّ إلاّ بالاعتراف بصفات الآخر ليتمّ الاعتراف بصفات الذات، لكنّ الاعتراف بصفات الآخر ينبغي أن يكون مرحلة وقتية أو حلقة وسيطة على المرء أن ينفيها بعد أن يستهلكها عبر ما يسّمّى بالمُقاومة: مقاومة الوعي بالذات الأخرى التي تبلبل الوعي بذواتنا. فالوعي بالذات تحكمه الرغبة والمقاومة في آن وهما حركتان متدافعتان تدافُعَ كلِّ قوّتين متضادّتين متجاذبتين لتحقيق توازن فيزيائيّ ما.
بهذا المعنى فإنّ الجماليّ في الفنون والآداب – أيّ إدراك الجميل والحسن في هذه الوسائط التي تستعمل العلامات على اختلاف ألوانها – هو مرحلة وسيطة بين وعيَيْن للذات رغبة في إدراك الجميل الغيري من أجل استكمال الوعي بالذات، الوعي الذي يبدأ بتشكيل الآخر ومقاومته في آن، حتّى لا يستبدّ بالذات. هذا الكلام يقتضي أن نجد في كل العلامات التي عبّرت عن الجماليّ دلالتيْن: دلالة على الرغبة (هي التي يُطيل فيها النقد ضمن ما يعرف بالنقد الجماليّ) وأخرى على المقاومة أو الصّراع وهذا ما لا يبحث فيه باحث رغم تعدّد علاماته.
لنأخذ مثالا بسيطا ومعروفا هو رسم الموناليزا الشهيرة أو الجوكوندا للفنّان دافنشي الذي لم يعد مجرّد لوحة، بل أحاطته هالة من الأساطير الفنية، وصار ذلك الوجه أشهر الوجوه الزيتية المرسومة، ولكن لم يقل الناس إنّه أجمل وجه مرسوم في العالم. ليس الجمال البشريّ شيئا مطلوبا في هذه اللوحة، بل ليس شيئا ذا موضوع أصلا، فالألوان التي شكّلت اللوحة داكنة لا تصنع الانشراح، وكان أكثر الألوان إشراقا لون البشرة واليدين أي لون المكشوف من الجسد الذي لا يثير. اللون علامة مزدوجة توحي بالرغبة والمقاومة، الرغبة في فتح الباب على المثير الممكن، ولكنّ مفاتيح مقاومته تسرع إلى غلقه سريعا: الثياب علامة مزدوجة أخرى غيابها مفتاح للرغبة في إبراز الجميل، وحضورها علامة على مقاومة ذلك الجميل وفي الطبيعة وألوانها علامات تقرأ على الطرفين النقيضين: في الأفق نورٌ يصارع ظلمة كثيرة. لم تكن اللوحة بورتريه للسيدة فلورانتين ليزا غيرانديني التاريخية بل كانت بورتريه لدافنشي نفسه، نحن لا نعني أنّ صورته انعكست على صورة وجه جميلته المرسومة، بل نعني أنّ الفنّان يرسم وعيه بذاته وهو يرسم وعيه بالآخر، وأنّ الجميل والقبيح، الحزين والسّعيد، الهادئ والثائر، لا يُقرأ في وجه صاحب البورتريه، بل في أنانيّة الذات التي ترسمه. إنّها تريد وهي ترسمه أن تعيَ بنفسها لتنفيَ ذلك الآخر الذي ترسمه.
ملامح المرأة التي رسمها في الشّعر الغزليّ العربيّ رجالٌ بعيون شبقيّة، أكثر مما رسموها بعيون عاشقة، لا يمكن أن تخفي بما هي مشاهد هذا التردّد بين الاعتراف بجمالية الآخر المؤنّث وقتله في النهاية كي تعيش الذات بسلام سعيدة بوعيها بنفسها. وليس أدلّ على ذلك من الاستعارات المعشّشة في جيوب الشعر القديم وأهمّها استعارة العشق ـ قتل كقول عنترة بن شدّاد: «رمت الفؤاد مليحة عذراء ـ بسِهَام لحْظٍ ما لَهُنَّ دواءُ». في هذا القول قتل يقرأ عادة في القراءات الجمالية، على أنّه قتل استعاريّ مليح تتمناه النفوس العاشقة، وعادة ما تنتهي القراءة بالترحم على العاشق المقتول نفسه. لكن يمكن أن يُقرأ على أنّه إيجاب لحقوق القتل: الذات تريد قتل آخر يريد قتلها ولا يهمّ إن كان ذلك عن حبّ. ينبغي أن لا نقرأ الصورتين التقليديّتين (النحيل العاشق، القاتلة المعشوقة) بانفصال: لا يعيش النحيل من جمال قاتله بل يعيش باستهلاكه، مثلما أنّ العاشقة الدموية لا تعيش إلاّ من سفك دماء سبيّها، إن الغزل، هو في بعد من أبعاده استهلاك للجميل قبل أن يفني ذات العاشق النحيلة، هو استهلاكُ من يريد أن يحيا بوعيه الجميل بذاته وقد أربكه جمال آخر قنّاص يريد أن يفتك به. وبالعودة إلى البيت السابق نجد العلامات على طرفي نقيض: علامات للوعي بالذات وهي قليلة قلة من كان وحيدا مهدّدا (الفؤاد) وعلامات عن آخر ظاهره ملائكي (مليحة) ولكنّ أدواتها حربية (سهام ما لهن دواء) وجماله دموي هي عذراء :فيض من الدم مكتوم ينتظر أن يسيل هدّارا. الآخر دمويّ الأداة والشرف، أمّا الذات فالوعي بها يجعلها في صورة قلب متعطش للحياة مطارد بالموت. إذا كان لا بد من لحظة وعي بالذات دموية فينبغي أن تكون الذات فيها فؤادا (في اللسان: القلب سمّي ذلك لتوقّده) حيا ولا بدّ أن يكون الآخر المفارق عدوّا «استهلاك» دمه (البكارة) مباح لأنّه يهدّد وسيبيد ويبدّد.
هكذا ومثلما يقول هيغل فإنّ المقاومة التي تأتي من الاعتراف بالذات عن طريق الاعتراف بالآخر تكون بالموت والحياة. لا بدّ من وعي ما أن يموت ليحيا وعيٌ آخر، الحياة والتحرر أساسيّان، ولا بدّ من أن يموت طرف من الطرفين المقاومين: في هذه الحالة لا يموت العاشق وإن ظهر على ركح الأحداث مقتولا، إنّما هو يتظاهر بالموت ليقنص بموته وعيا مفارقا.
أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية
توفيق قريرة