بعد الاستفتاء على الدستور العراقي الدائم عام 2005، أصدرنا كتابا محررا في بغداد كان بعنوان «مراجعات في الدستور العراقي»، وقد نشر عام 2006. وقد كتبت في مقدمة هذا الكتاب أن الدستور العراقي الذي كتب بإرادات ثلاثة أطراف مفترضة تحت مظلة عليا أمريكية قد فشل في أداء المهمة الأساسية لأي دستور وهي صياغة عقد اجتماعي/ سياسي/قانوني متفق عليه، هذا الاتفاق الذي يأخذ أهمية استثنائية في الدول ذات التباينات القومية، والدينية، والمذهبية. وذات التباينات الديمغرافية غير الحاسمة لمفهوم الاغلبية لصالح أحد هذه الأطراف كما هو الحال في العراق. خاصة مع وجود تاريخ طويل من التهميش والاستبعاد وهيمنة هوية محددة على الدولة العراقية الحديثة منذ نشأتها عام 1921. وان الخطوة الاولى التي كان يجب القيام بها في ظل هذه المقدمات هي إجراء «مراجعة نقدية» لهذا التاريخ، من منظور عقلاني وموضوعي بعيدا عن أية تحيزات أو أدلجة، لكن هذا ما لم يحصل.
فقد هيمنت «المقاربة الأيديولوجية» على الخطاب السياسي في العراق بعد الاحتلال، ولم تبتعد هذه الهيمنة عن موضوع «الدستور» نفسه، حيث نظر اليه الجميع من هذا المنظور الإيديولوجي البحت، دون أي مقاربة معرفية حقيقية. لذلك فشل الدستور « الدائم « في تأسيس هوية وطنية تعبر عن إرادة جميع أفراد ومكونات المجتمع العراقي، واكتشفنا لاحقا ان الدستور نفسه يكرس الاعتماد على أعراف «المجتمع العصبوي» الذي يقوم على إعادة تأكيد الانتماء إلى العرق، أو الطائفة، أو العشيرة، أو حتى العائلة، وهي الانتماءات التي تسبق في تراتبيتها الدولة، لذلك كان حريصا على إعلان هذه الانتماءات في متنه، وبشكل غير مسوغ.
من هنا وضع الدستور العراقي في سياق الاستقطاب الطائفي الحاد، والذي غذته ورسخته النخب السياسية، بعد لحظة نيسان/ ابريل 2003، وتعاملت معه الطبقة السياسية باندفاع عاطفي حيث نظر اليه طرف بوصفه حجة قائمة، ورفضه طرف آخر وشيطنه، مع ما فرضه كل ذلك من مواقف تجاه الدولة نفسها. وظهرت في النهاية إرادات ثلاث حكمت عملية كتابة الدستور: إرادة أغلبية شيعية تتحدث باسم الأغلبية الديمغرافية، وكانت أهدافها الأساسية هي: تكريس مبدأ الأغلبية العددية في هذا الدستور والإطاحة بنموذج الديمقراطية التوافقية الذي تردد صداه في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وذلك لغرض ضمان هيمنتها على الدولة من جهة، وبث النفس الإسلامي، بتأويله الشيعي، في متن الدستور من جهة ثانية، ثم خيار «الفيدرالية « الذي يسمح للجماعات السياسية المكونة للائتلاف بالهيمنة على مناطق نفوذها الرئيسية إذا ما فشلت في فرضه هذه الهيمنة على بغداد. وكانت الإرادة الثانية هي إرادة التحالف الكردستاني الذي عول على فكرة تكريس سلطة الأمر الواقع، كما رسمها هو من طرف واحد، وكان همه الرئيسي يتمثل في ضمان الفيدرالية الحرة والاختيارية، والتي تصل في أغلب الأحيان حدود الكونفدرالية، مع ترك باب التأويل مفتوحا أمام جميع الخيارات، ومن ضمنها خيار الانفصال، من خلال التأكيد على أن تطبيق الدستور وحدة هو الضامن لوحدة العراق. واخيرا إرادة غير واضحة الرؤية والأهداف لأعضاء كتابة الدستور «السنة»، الذين كان وجودهم شكليا وأقرب إلى « الشكلي» بسبب موازين القوى الفاعلة، سواء في الجمعية الوطنية حينها بسبب مقاطعة السنة العرب لانتخاباتها في بداية عام 2005، أو في «لجنة كتابة الدستور» التي انبثقت عن هذه الجمعية، ومن ثم خضع وجودهم لإرادة أمريكية تريد استكمال الشكل الديمقراطي على عملية كتابة الدستور، أكثر منها قناعة الآخرين بضرورة ذلك. فضلا عن غياب استراتيجية واضحة لدى هذه المجموعة التي كان دورها أقرب إلى دور المعارض العبثي منه إلى دور الفاعل الحقيقي.
بنيت المعادلة السياسية في العراق بعد 2003، إذا، على أساس مثلث، يقف الفاعل السياسي الشيعي والفاعل السياسي السني في طرفي قاعدته، في حين يعتلي الفاعل السياسي الكردي أعلى رأس المثلث، ومن ثم، فان حركة الاخير هي التي ترجح ميزان الصراع بين الطرفين الأولين! وبسبب هذه المعادلة فان الفاعل السياسي الشيعي لم يكن مستعدا طوال السنوات الماضية على مواجهة الفاعل السياسي الكردي، وكان دائما حريصا على الوصول إلى صفقات انتهازية مؤقتة معه، وليس حلولا جذرية للإشكاليات القائمة بين بغداد وأربيل. أي أن الدستور العراقي بني على أساس صفقة انتهازية بين الفاعلين السياسيين الشيعي والكردي، يستطيع الاول من خلالها تحييد الموقف الكردي في إطار صراعه الأساسي مع الفاعل السياسي السني! في مقابل تمكين الثاني من السيطرة على الإقليم، بعيدا عن أي دور للسلطات الاتحادية! وقد استطاع كلا الفاعلين الابقاء على هذه الصفقة طوال السنوات الماضية، وإن كانت قد تعرضت إلى أكثر من امتحان لكنهما لم يستطيعا ابطال هذا الاتفاق! على العكس من ذلك، فقد كان كلاهما يحصلان على مكاسب أكبر بعد كل امتحان! ومثال ذلك موقف الحزبين الكرديين المعارض لترشيح السيد ابراهيم الجعفري لمنصب رئاسة مجلس الوزراء في العام 2005 الذي انتهى بصفقة جانبية بين هذين الحزبين ونوري المالكي، استطاع الاقليم من خلالها السيطرة على المناطق المتنازع عليها بعد سحب القوات الاتحادية من هذه المناطق، فضلا عن «السماح» للإقليم بتصدير النفط، وقد فضح الرئيس السابق جلال الطالباني الصفقة الجانبية الاخيرة عندما تحدث أثناء افتتاح حقل طقطق النفطي في العام 2009 عن وجود اتفاق مع المالكي يسمح للإقليم بذلك في حال عدم تمرير قانون النفط والغاز في موعد أقصاه 1 تموز/ يوليو 2007! وبعيد انتخابات عام 2010، التي فازت بها القائمة العراقية بزعامة أياد علاوي أخذ الكرد موقف الحياد تماما تجاه قرار المحكمة الاتحادية المسيس الذي قضى بان الكتلة الاكثر عددا التي ترشح رئيس مجلس الوزراء ليست هي الكتلة الفائزة بالانتخابات، بل الكتلة التي تتشكل في مجلس النواب بعد الانتخابات! وكان أن كسب الكرد مكاسب إضافية فيما عرف باتفاق أربيل الذي تشكلت بموجبه حكومة السيد المالكي الثانية.
في المقابل كان الفاعل السياسي الشيعي يعتمد على تحالفه «الاستراتيجي» مع الفاعل السياسي الكردي، أو حياد الأخير، في مواجهته مع الفاعل السياسي السني. فقد صمت الكرد تماما على الانتهاكات الدستورية والقانونية التي كان يقوم بها الفاعل السياسي الشيعي في بغداد ما دامت لا تمس مصالحهم ومكاسبهم! وكان آخرها الموقف الكردي «الحيادي» تجاه مسألة تشكيل ميليشيا الحشد الشعبي في العام 2014، او شرعنته لاحقا في مجلس النواب!
من الواضح اليوم، أن الصفقة الانتهازية التي حكمت العلاقة بين الفاعل السياسي الشيعي والفاعل السياسي الكردي لم تعد صالحة للاستمرار! إذ يبدو ان الفاعل السياسي الكردي يعتقد ان اللحظة التاريخية لإقامة الدولة/ الحلم في مرحلة ما بعد داعش وإعادة رسم الخرائط على الأرض لا يمكن تفويتها! فيما يبدو الفاعل السياسي الشيعي اليوم أكثر استعدادا لقطيعة نهائية مع الفاعل السياسي الكردي في ظل أوهام القوة غير المسبوقة التي يعتقد هذا الطرف انها نتجت عن مواجهة داعش عسكريا، وعن الدعم الدولي في الحرب على هذا التنظيم، وعن الموقف الدولي والإقليمي ايضا الرافضين للاستفتاء، بعد هزيمة السنة النهائية المفترضة!
في النهاية لا يمكن فهم إجراءات بغداد الأخيرة ضد الإقليم إلا على انها إجراءات تصعيدية بعيدة عن أي عقلانية، وبالتأكيد لا يمكن التعاطي مع الحجج الدستورية والقانونية التي تقدمها بغداد بجدية! فلا أحد في العراق يحترم الدستور، بل الجميع يتعاطى معه كأداة سياسية، كما لا يمكن التعاطي مع القرارات التي تصدر عن المحكمة الاتحادية باحترام، لأنها محكمة غير شرعية ومسيسة تماما.
إن اللجوء الى سياسة كسر الإرادات في مجتمعاتنا الذكورية والقبلية، لا يمكن إلا ان تقود الى تعنت الطرف المقابل، وبالتالي إعطاء دفعة أكبر فيها لكل دعاوى الانفصال! فثمة إرادة لدى الفاعل السياسي الشيعي إلى الدفع بالإقليم تجاه الانفصال، لكن بحدود الخط الأزرق حصرا لكي يستأثر بالعراق المتبقي ككل!
٭ كاتب عراقي
يحيى الكبيسي
حين إستنجد السُنة العرب بالأكراد السُنة لحمايتهم من عصابات جيش المهدي سنة 2006 خذلهم قادة الأكراد
مشروع الأكراد قومي بالدرجة الأولى وليست هناك أولوية لديهم في نصرة إخوانهم السُنة العرب تحججاً بما جرى لهم بالأنفال وحلبجه بأيام صدام!
اليوم الأكراد محاصرين من جميع الجهات وستسحب منهم الكثير من الإمتيازات التي كانوا يتمتعوا بها قبل الإستفتاء
والسؤال هو :
لماذا لا يتحالفون مع السُنة العرب أمام تحالف الأعداء ؟
كما ترك الأكراد السُنة العرب لوحدهم أمام الشيعة, هاهم الآن لوحدهم أمام الشيعة – يمهل ولا يهمل
ولا حول ولا قوة الا بالله