عن بطل أسطوري لم ينتصر

حجم الخط
0

فيما هو يقف على قرب ثلاث خطوات من المشنقة أشياءُ صغيرة لم تكف عن وخزه: تلك الحصوة الصغيرة العالقة في حذائه، ولم يستطيع إزالتها منذ أن اقتادوه مصفّد اليدين من زنزانته، مشطه الخشب الذي كان يشذّب به لحيته، ثم ساعة الجيب الروسية ماركة سركيسوف، وصديريته التي أجبر على خلعها… إلخ.
المنديل الأخضر لم يكن أيضا في جيبه، إذ أنه، هو الشيخ سعيد النقشبندي، ظل محتفظا به، اشتياقا وتبرّكا، من حبيبته بريخان، التي قضت جرّاء غرقها وهي ما تزال في يفاعتها. وفي انتظاره لموته، هناك بعد ثلاث خطوات، أشياء أخرى كانت تلحّ عليه: عطَشه مثلا، الذي يحرق فمه وجوفه، ثم الجنديان الصامتان الواقفان حوله واللذان يحرسانه في لحظات حياته الأخيرة. ليس أكثر من ثلاث خطوات بينه وبين المشنقة. كان خمسون من رفاقه قد أوقفوا إزاء مشانقهم، مثله، وهو شهد، أو سمع، صوت تخبّط أرجل بعضهم بعدما أزيحت الدرجات الخشبية من تحتها. ثلاث خطوات فقط، لا نعرف المدى الزمني اللازم لقطع رحلتها. ربما كانت مدة طويلة إلى حد أن الشيخ تمكّن فيها من تذكّر حياته كلها؛ أو هي بطيئة ربما، طالما أنه يمكن للذاكرة أن تعبر أزمانا في لحظات.
ثلاث خطوات لن يخطوها الشيخ إلا بعد أن تُروى حياته كاملة، بخطوطها العريضة لكن أيضا بكثير من التفاصيل. وهو، على أي حال، لن يترك أمر ذلك لراويته وحده، إذ أنه يعاونه في أحيان كثيرة ذاكرا بلسانه وقائع كثيرة جرت، بل أن الاثنين، الراوية والشيخ، يتّحدان في رواية تلك الحياة، التي وإن اختصّت بأحدهما (الشيخ)، إلا أن هذه الحياة اندمجت وتوالفت مع وجود الكرد، ابتداء من نزوعهم المحبَط إلى الحرية مرورا بالأيام الحاسمة التي سبقت ثورتهم ضد الأتراك، في مرحلة فاصلة من تاريخ هؤلاء الأخيرين. وفي الرواية وصف تفصيلي لما جرى في تلك الثورة التي كان محكوما عليها بالانكسار على أيدي الدول الكبرى، ثم بتشتت مواقف الكرد وانفراط جمعهم وتفرقهم. كل ذلك حاضر في الرواية التي لم يحل طابعها القومي، بل الصوفي، بل ومسعاها إلى أن تكون رواية ملحمية، بدون ذكر تردد الكثير من وجهاء الكرد وقادة جماعاتهم وتفرقهم بعضهم عن بعض، بل وتسبّبهم هم أيضا في فشل الثورة وسقوطها.
كل ذلك جرى سرده في الوقت القليل اللازم لقطع مسافة الخطوات الثلاث تلك. وقد عاينت الرواية ما يجري، وما يُتذكّر، في الوقت الفاصل بين كل من الخطوات الثلاث حتى بدا أن كلا من هذه الخطوات عنوانٌ لفصل من فصولها. وفي كل من هذه الأوقات الفاصلة كان السرد يذهب في اتجاهات شتى، ابتداء مما يحدث للشيخ غير القادر على مسح دمعة أفلتت من عينيه لكونه مقيّد اليدين، ثم يتجه السرد إلى المكان القريب، حيث المشانق الخمسون التي رفعت على عجل لإعدام رجال الثورة…إلخ، ثم إلى تفاصيل ما جرى في أثناء التهيئة لبدء الثورة في ديار بكر، بما في ذلك ما جرى في المؤتمرين اللذين أقامتهما الدول الأوروبية المنتصرة في سيفر ولوزان. في كل ذلك بدا الشيخ سعيد النقشبندي يقود شعبه، أو من انضمّ إليه من شعبه، كما لو أن معركته، آنذاك بُعيْد الحرب العالمية الأولى، تقاد على طريقة ما كان يجري في الحروب القديمة. كأن الشيخ النقشبندي يعيد الحرب إلى الطقوسية التي كانت لها إبان الحروب التي رافقت انتشار الدعوة الإسلامية. ففي خضمّ التنازع والقتال كان ما يقوله صادرا عن حكمة أدبية شبيهة بما كان يُحفظ منقولا على لسان النبي.
الشيخ شخصية أسطورية بطولية في زمن التسويات الدولية، وإعادة النظر في خرائط المنطقة. وهو كذلك على الرغم من أنه لم ينتصر، ولم يأت بمعجزة، ولم يسقط سقوطا مدويا (ودائما حسب الرواية). لكنه بطل، وبطل أسطوري حتى إن كانت حياته قد تألّفت من صفات وعناصر غير أسطورية، كأن يكون خجولا ووفيا في عشق يفاعته، وأن يسعى إلى التقريب بين المتخاصمين المتعاندين من أبناء جلدته، لا أن يسودهم بطغيان حضوره. هي كاريزما الرجل التقي، الحكيم والعاقل الذي لم تصنعه إرادة فذّة بل هو وريث لحضور سبقه تمثل في أوّل سلالته صاحب النقشبندية الأول. ثم أن إعدامه شنقا لم يؤدّ إلى ثورة تالية يقوم بها مؤيّدوه وأنصاره إلخ.
كما أن الرواية، رغم انتقاديتها القاسية أحيانا لتفرّق الكرد في زمن تلك الثورة، وربما في ما سبقها وتلاها، تحتفل بالتاريخ والجغرافيا الكرديين. ليس لمجرد التعداد تتوالى أسماء المدن والقرى الكثيرة في الرواية، بل لتمجيدها والاحتفال بكثرتها. ينطبق ذلك أيضا على أسماء الرجال، أولئك الذين شاركوا الشيخ سعيد في ثورته.
رواية جان دوست رواية متمهِّلة، مسيطَر على سياقها من كاتبها الذي تمكن من أن يجمع كل هذه الوجوه من حياة الشيخ ومن قضيته وخوضه حربا من أجلها، وذلك في نبرة سردية أحكم لها الكاتب سيطرته على مشاعر بطله، المستعادة حياته كلها وهو على ذلك القرب من الموت.

٭ ثلاث خطوات إلى المشنقة» رواية جان دوست صدرت عن دار الساقي في 223 صفحة، 2017.

٭ روائي لبناني

عن بطل أسطوري لم ينتصر

حسن داوود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية