ديمقراطية أوباما: سراء أم ضراء؟

حجم الخط
2

فشل دافيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، في الحصول على تخويل من مجلس العموم، يتيح له مشاركة الولايات المتحدة الامريكية في توجيه ضربة عسكرية؛ هو هزيمة، بالطبع، سياسية ومعنوية وحزبية، فضلاً عن كونها شخصية تصيب كاميرون نفسه. ولكنّ صفتها الأخرى المتلازمة هي أنها انتصار للديمقراطية البريطانية، أياً كانت تحفظات المرء ضدّ أحفاد أوليفر كرومويل وميثاق الـ’ماغنا كارتا’، وبصرف النظر عن المظانّ التي قد تطعن في مصداقية هذا البرلماني الرافض، أو ذاك الموافق. الأساس، في كلّ حال، أنّ كاميرون كان ملزَماً بالرجوع إلى المجلس، على أصعدة دستورية وأخلاقية، قبل أن تكون رمزية صرفة، ولم يكن حرّاً طليق اليدين.
من جانبه، لم يكن الرئيس الأمريكي باراك أوباما مجبراً على العودة إلى الكونغرس بصدد الأمر ذاته، وكان يكفيه التشاور الشكلي مع زعماء الأغلبية ورؤساء اللجان المختصة بالأمن القومي والقوات المسلحة والسياسة الخارجية؛ وثمة سابقة حديثة العهد، في هذا المضمار، هي انخراط أمريكا في عمليات الحلف الأطلسي ضدّ نظام معمّر القذافي، دون أيّ تخويل من الكونغرس. لكنّ أوباما فاجأ العالم، وغالبية معاونيه ورجالات إدارته (باستثناء رئيس أركان البيت الأبيض، دنيس ماكدونو، كما تردد)، حين أعلن أنه ينوي إرسال مشروع قرار إلى الكونغرس، مجلسَيْ النوّاب والشيوخ، يتضمن طلب التفويض بعملية عسكرية (محدودة، ضيّقة النطاق، ولا تستهدف إسقاط الأسد، أو تغيير نظامه… للتذكير الضروري!)، بعد تنظيم نقاش، وإجراء تصويت.
هل تراجع، إذاً، وصرف النظر عن الضربة العسكرية، وعَكَس تيّار الإدارة التي لم تعد تصريحات كبار ممثليها تتحدّث عن ‘هل’، بل ‘متى’ و’كيف’ سيتمّ تنفيذها؟ أم أنّ الرجوع إلى الكونغرس يستهدف تأمين غطاء دستوري، وشرعية عابرة للخلافات الحزبية، إذا تطوّرت الضربة المحدودة إلى ما هو أبعد أثراً، وأطول زمناً، وأشدّ عاقبة على القائد الأعلى للقوّات المسلحة الأمريكية؟ أم أنّ غرض أوباما هو ممارسة التمرين الديمقراطي، وتكريم رأي ممثّلي الشعب، وإظهار بلده بمظهر أقوى من الوحدة والتلاحم بين الرئيس والمشرّعين، كما قال؛ خاصة وأنّ الديمقراطية الأمريكية ليست أقلّ من نظيرتها البريطانية حرصاً على دستورية قرارات كبرى مثل الانخراط في عمل عسكري خارجي؟
الحال أنّ تصريحات أوباما لا توفّر إجابة صريحة على هذه الأسئلة، ولكنها لا تغلق احتمالاتها، أو هي بالأحرى لا تغلق أيّ احتمال؛ خاصة تلك الفقرة التي تشير إلى أنه ‘اتخذ القرار’ بالفعل، حول ضرورة معاقبة النظام السوري بضربة عسكرية، ثمّ اتخذ قراراً تالياً هو الرجوع إلى الكونغرس. المحزن، في هذه الرياضة بأسرها، أنّ بعض أقطاب المعارضة السورية الخارجية ممّن يتوجب أن يدفعهم برنامجهم السياسي والأخلاقي، من أجل سورية المستقبل الديمقراطية، إلى امتداح هذا الطراز من السلوك الديمقراطي الذي لجأ إليه أوباما أعربوا عن ‘خيبة أمل’ لأنه انحنى أمام مؤسسة التشريع الأعلى في بلده!
بيد أنّ سلوك أوباما هذا يقودنا إلى واحد من دروس التاريخ البليغة: أنّ بين أشدّ خلائط السياسة خطراً، وشذوذاً وغرابة، تلك التي تجعل الولايات المتحدة ديمقراطية داخلية وإمبريالية خارجية، في آن معاً؛ الأمر الذي تناوله شالمرز جونسون، أحد أذكى متابعي مخاطر صعود الإمبراطورية الأمريكية، على نحو ثاقب ومعمّق في كتابه ‘نيميسيس: الأيام الأخيرة للجمهورية الأمريكية’. وهذا العمل، الذي قد يكون التحليل الأعمق والأشجع والأشدّ قتامة لانحطاط الديمقراطية الأمريكية، خاصة في ولايتَيْ جورج بوش الابن، هو الجزء الأخير من ثلاثية بدأها جونسون سنة 2000 بكتاب ‘ردّ الصاع: أكلاف وعواقب الإمبراطورية الأمريكية’؛ ثمّ أعقبها بكتاب ‘ضرّاء الإمبراطورية: النزعة العسكرية، الكتمان، ونهاية الجمهورية’.
ويرسم جونسون المشهد التالي الذي لا ينطوي على أيّ تهويل أو مبالغة: ثمة خليط من جيوش هائلة منتشرة خارج البلاد، موضوعة في حالة حرب؛ واعتماد اقتصادي متزايد على المجمّعات الصناعية العسكرية، وتصنيع الأسلحة خصوصاً؛ وإنفاق خرافي على القواعد العسكرية، مع تضخّم هائل غير مسبوق في ميزانية البنتاغون؛ إذا وضع المرء جانباً ذلك الانتشار السرطاني لنفوذ وزارة الأمن الداخلي وصلاحياتها، والتدمير المنظم لبنية الحكم الجمهوري لصالح رئاسة إمبريالية أكثر فأكثر… ولا يتردد جونسون في إنذار أبناء جلدته: ‘نحن على حافة خسران ديمقراطيتنا من أجل الحفاظ على إمبراطوريتنا. وحين تسير الأمّة على هذا الدرب، فإنّ الديناميات التي تنطبق على كلّ الإمبراطوريات السالفة لا بدّ ان تنطبق علينا: العزلة، الإفراط في التوسع، توحيد العناصر المحلية والكونية المناهضة للإمبريالية، والإفلاس في الختام’.
وهكذا، إذا جاز افتراض الباعث الديمقراطي في لجوء أوباما إلى تخويل الكونغرس، حول عقاب النظام السوري على استخدام الأسلحة الكيميائية؛ فإنّ ما يجوز التفكير به، استطراداً، هو أنّ هذه الديمقراطية الأمريكية هي، ذاتها، التي استخدمت القنبلة النووية، وأشكال أخرى من أسلحة الدمار الشامل؛ أو زوّدت الجيوش الحليفة بأنماط مختلفة منها، أو تغاضت عن استخدامها في حروب شتى. وهي ديمقراطية فظائع سجون ‘أبو غريب’ العراقي، و’باغرام’ الأفغاني، و’غوانتانامو’ الأمريكي، والمعتقلات الطائرة، والسجون السرّية…
وهذه، في نهاية المطاف، بعض تناقضات شخصية نيميسيس، ربّة الثأر والعقاب في الأسطورة الإغريقية، حيث السراء ضراء… والعكس!

 

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ف. اللامي:

    ولا زلنا نسأل، حتى يومك هذا، لماذا لم يقم صدام بضربة إستباقية إبان عاصفة الصحراء، والجيوش تتجمع على حدوده، بدل الإنتظار حتى يتموا كامل التجهيز ويختاروا هم، الوقت الأنسب. لقد كاد تقدم فرقة عراقية مدرعة واحدة في حينه، أن يقلب اللعبه.
    يعيد الأسد اليوم، القصة ذاتها، وبنفس السياسة الدفاعية البليدة، والجيش تبع الداخلية، والداخلية تبع المخابرات، والمخابرات تبع الجهاز، والجهاز تبع الريس، والريس تبع العيلة، والعيلة تبع الطايفة، والطايفة تبع الريس، وليس أي منهم بناظر صوب الجحافل عند الحدود، وكأن الكرسي قد غدى وحده، كل الحدود، وغيره مباح.

  2. يقول نوار:

    تحليل صائب وتوصيف دقيق وموضوعي عكس تعليقات كتاب ومواقع وقنوات الممانعة والمقاومة التي تقرفنا بترديد اصطكاك ارجل اوباما وهلع امريكا والغرب من سحق اسرائيل وازالتها من الخريطة من قبل ايران وحزب الله وسوريا الأسد.والله يحفط الشعب السوري وسوريا التي ذاق شعبها الأمرين تحت قصف وقنابل نظام المقاومة.

إشترك في قائمتنا البريدية