أقاصيص «الاغتيال على مهل» للتونسي عمارة عمارة: كتابة القاع

حجم الخط
1

■ خاتلني عنوان المجموعة، توقعت أن تكون كتابة للاغتيال السياسي سمة العصر الراهن، لكن اطلاعي عليها سفّه توقّعاتي، فمصطلح الاغتيال يخرج عن استعماله التقليدي الذي يجمع بين ثنائية الضحيّة والسّلاح الغادر، ليعبّر عن نوع آخر من الاغتيال هو الذي وسمه الكاتب بالاغتيال على مهل، وهو ذلك الذي تحدثه الظّروف الاجتماعيّة عندما يجد الفرد نفسه في الهامش الاجتماعي، حيث الحرمان والاحتياج، وهو ما تعبّر عنه هذه القصص التي تدور في فلك القاع الاجتماعي، فهي تعجّ بالأشقياء والمحتاجين ممن يعيشون صراعا صعبا مع الزمن.
الكاتب اختار في هذا العمل الكتابة بلغة القاع ـ ونحن هنا نميل إلى مقولة اعتبار اللغة الأدبية حاملة لبصمات الطبقة الاجتماعية ـ إذ اختار الكتابة بلسان المعدمين والفقراء، معبرا عن قضاياهـــــم ومشاغلـــهم ومنتصرا لصوت هذه الطبقة الاجتماعية الفقيرة والمعدمة، التي تلوّح بفقرها ولا تخجل منه، فنجد الشخصيّات تعترف بفقرها وشقائها مثلما يتحدّث سارد قصّة «الحديدة»… «أنا أتأمل أثر الأيام على خلقتي فقط، صفرة على الأسنان تجاعيد على الجبين، ندوب دقيقة تغالب الزمن والسمرة في الحضور على طرفي الوجه، تهدل خفيف على الجفنين حزن ساكن في البؤبؤين». ويواصل السارد وصف حاله مبرزا فقره وتواضع إمكانياته:
«وضعت حقيبة صغيرة وعتيقة فيها لوازم تنظيف قليلة أنبوب مجعد يحوي قليلا من معجون الأسنان، موسى حلاقة يتيمة مع فرشاة منتوفة، قنينة عطر رخيص مشط فقد بعض أسنانه وقطعة صابون لا أذكر متى استعملتها آخر مرة».
هذه اللغة الاجتماعيّة تحرص على إبراز الفقر وتحاول تفصيله بنفس يقترب من النفس الفخري. فالشخصيات لا تخفي هامشيتها واحتياجاتها، بل تحرص في خطابها على إبراز واقعها وهو ما نستشفه من الشواهد السابقة.
ويبدو هذا القاع الاجتماعي عرضة للتوظيف والاستغلال السياسي والإعلامي. وهو ما تفصح عنه قصة» كاميرا» التي تصوّر مجموعة من الفقراء، ينتظرون وصول المسؤولين لتقديم مساعدات اجتماعية، وترصد عملية التسليم وما يرافقها من تصوير تلفزي. وقد دسّ الكاتب بين طيّاتها الكثير من الدّلالات التي تتمحور حول واقع الفئات الهامشيّة ولعبة توظيف هذه المناسبات من طرف السّاسة، محاولة منهم للاستفادة منها إعلاميا. ففي هذا المجال نتوقّف عند مشاهد المواطنين وأحوالهم القاسية ومعاناة الانتظار. فهذه الوجوه الفقيرة «كالحة مثل أديم الأرض التي لم يقبلها المطر منذ أمد، حتى أن الغبار كان يتصاعد مثل الغبار لمجرد أن تحتك نعالهم المهترئة بالأرض وهم يجرون أرجلهم المتثاقلة التي أعياها الانتظار»، وهم يتكبدون معاناة الانتظار لساعات طويلة، «موشوشين في ما بينهم بالتذمر من أشعة الشمس الحارقة ومن الانتظار الذي طال».
هذه الصورة تقابلها صورة الطرف الرسمي ممثل السلطة وهي صورة تبدو على النقيض الاجتماعي إذ «توقفت سيارة أخرى فارهة بنظام تكييف لينزل منها رجل أبيض البشرة، كثيرا ما يعدل من وضعية نظارته الطبية على عينيه أو يسوي ربطة العنق الأنيقة فوق قميصه ناصع البياض… ردد بعض الحاضرين مباشرة إنه السيد الوالي مع السيد المعتمد ومرافقيه».
ولعلنا نلحظ حرص الكاتب في هذا المجال على تعميق الهوة بين الطرفين، الفقر والحر من جهة والرّفاه والتكييف من جهة ثانية، ولعلّ هذا يبدو أيضا على مستوى اللباس، فالنعال المهترئة تقابلها ربطات العنق والقمصان البيضاء الناصعة. ومن الطبيعي أن ننتبه في هذه القصة لذلك الحرص السلطوي على توثيق هذه اللقطات وتصويرها لاستثمارها فـــي المزايدات السياسية والإعلامية «وسريعا ما بدأت تظهر صناديق من الكرتون بين يدي بعضهم، فتلتقط الكاميرا المترصدة صورة لحاملها وهو لا يعرف كيف ارتسمت على شفتيه الجافتين تلك الابتسامة، ولا حتى كيف أجاب عن تلك الأسئلة التي يكررها حامل المصدح في وجه كل منتفع بتلك العملية».
والكاتب في هذا المجال يلتقط صور هذه القصة ومظاهرها من الواقع المحلي التونسي، وحفلات المساعدات البسيطة التي تقدّمها السّلطة للفقراء لتوظيفها إعلاميا، فما الأمر إلا «كرتونة …فيها المعكرونة…والطماطم…و…» على حدّ قول أحدهم للمراسل التّلفزي. ولعل الكاتب يفصح بهذه القصة عن موقفه من هذه المناسبات، وهو بذلك يصور موقف الطبقة الاجتماعية وإحساسها الداخلي من هذه العملية التي تحمل طابعا مهينا، وهو الذي جعل شخصيّة عزيزة تنفجر بكاء «حين بادرها الصحافي بالسؤال مقربا من المصدح فمها لم تقوعلى الكلام كانت تشعر كأنما لحمة صلبة قد نبتت للتو في حلقها مهددة بالاختناق، ولكنها نظرت بأسى صوب تلك العدسة التي تلاحق الوجوه والصناديق ثم رفعت طرفا من شالها إلى عينيها اللتين فاضتا بالدموع».
إن القاع يبدو في العموم ضحية لواقع اجتماعي وسياسي، ولعله يبدو متحايلا عليه من طرف بعضهم فسذاجته وطيبته تقابل بخبث أطراف أخرى، ولعلنا نستدل على هذا بقصة «لزوم ما لا يلزم» فأهل قرية السيسبان «يفتحون أبوابها بالترحاب والكرم أمام كل من يرغب في الإقامة أو الطعام منذ اليوم الأول من أيام الزردة، وليس على أي غريب وافد على هذه الديار أن ينشغل بأمر طعام أو إقامة» وهو ما جعلهم يفتحون الباب لفتحي وحمدية باعتبارهما زوجين جديدين قادمين من المدينة، لكن النهاية تكشف إنهم كانوا ضحية تحايل «فتحي وحمدية كانا يغادران بسعادة طافحة… قبل أن يفترقا كل إلى بيته ومدينته بعد أن تواعدا على اصطياد مناسبة أخرى كي يلتقيا فيها مثل زوجين في شهر العسل».
فالمجموعة القصصية التي نتناولها تغرق في سرد حكايات تصور الهامش الاجتماعي ومغامراته وانفلاتاته. فتقدم لنا شخصيات تبحث عن الخبز والحياة وأخرى تبحث عن اللذة الجسدية وتنشغل بشأن الجسد وهو ما جعل الهامش أيضا يتميز بطابع الكبت الجنسي، وهو ما نستشفّه من بعض الحوارات الواردة في المجموعة ومن بعض الأحداث التي توقف عندها الرواة.
نخلص ختاما إلى أن عمارة عمارة يحاول في هذه المجموعة الاقتراب من عوالم الهامش الاجتماعي وتصوير واقع الفئات الشعبية، ونقل لغاتها الاجتماعيّة التي تعبّر عن قناعاتها وميولاتها وصراعاتها، وهو ما دأب عليه في نصوصه وأعماله السّرديّة السّابقة. فلهذه القصص طابعها المرجعي الواقعي الذي يجعل لعبة التخييل لعبة توليد لواقع مشابه ومحتمل الوقوع وتسلل إلى الزوايا المسكوت عنها.

٭ ناقد تونسي

أقاصيص «الاغتيال على مهل» للتونسي عمارة عمارة: كتابة القاع

رياض خليف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عمارة عمارة:

    جزيل الشكر أستاذ رياض خليف.. دام قلمك.

إشترك في قائمتنا البريدية