فلَّت بيشمركة الحزبين الكرديين أمام جيش الحكومة المركزية، وقوات حشده الشعبي، من كركوك، فلول الثاني أمام قوات داعش، قبل ثلاث سنوات، من الموصل. وتزامن هذا الانتصار السهل للعبادي مع الفصل الأخير من الحرب الدولية على داعش. ما يعني ضرورة قراءة هذا الحدث بمعان تتجاوز تعقيداته المحلية، من غير إهمال هذه الأخيرة.
من هذا المنظور كان مفاجئاً ترك واشنطن لحليفها الكردستاني لقمة سائغة لقوات بغداد والحشد الشعبي، وبخاصة بعد تصعيد ترامب، قبل أيام معدودات، ضد إيران الوصية على هذا الأخير، وبدرجة أقل على حكومة العبادي. وهذا ما قد يعني أن واشنطن تراهن على العبادي للحد من النفوذ الإيراني في العراق. أي أنها قدمت له انتصار كركوك السهل لتكون ورقته الرابحة في الانتخابات القادمة في آذار/مارس 2018. لا نعرف ما إذا كان الرهان الأمريكي في محله أو ذا جدوى في مواجهة طموحات إيران التوسعية، بالنظر إلى أنه لا يمكن اعتبار حيدر العبادي خصماً لنظام ولي الفقيه، لمجرد علاقاته الطيبة مع الأمريكيين. فككل بلد صغير وهش، يسعى عراق العبادي، في أحسن الافتراضات، إلى علاقات متوازنة مع كل من طهران وواشنطن، إذا أحسنا النوايا وقبلنا بخروجه التام من عباءته المذهبية والحزبية التي تشده إلى نظام ولي الفقيه.
لكن للأمريكيين دافعا آخر، في موقفهم إزاء حدث كركوك، هو تلقين مسعود بارزاني درساً قاسياً بعد رفضه للعرض الذي قدمه وزير الخارجية تليرسون لقيادة الإقليم، وتضمن أجندة أمريكية مدتها سنة واحدة للتفاوض بين أربيل وبغداد بهدف حل الخلافات بينهما، بما في ذلك موضوع كركوك. وإذا لم تف بغداد بالتزاماتها وفشلت في الوصول إلى نتائج ترضي أربيل، فسوف تدعم واشنطن الاستفتاء (المؤجل) وفقاً للتعهدات الواردة في رسالة تليرسون.
قال بارزاني، حين وصله العرض الأمريكي إن الأمريكيين لم يقدموا له أي بديل مرض يدفعه لتأجيل الاستفتاء على استقلال الإقليم. ولم يغفر الأمريكيون لـ»كاك مسعود» هذا الموقف.
ولا يقتصر الأمر، من زاوية النظر الأمريكية، على هذا الرفض الذي كان تتويجاً لمسار من الاستقلال النسبي في القرارات الكردستانية عن الحليف الأمريكي. من ذلك علاقات أربيل المميزة مع الحكومة التركية المغضوب عليها أمريكياً، وبخاصة في جزئيتها المتعلقة ببيع نفط الإقليم بمعزل عن موافقة حكومة بغداد. ومنه أيضاً عقود النفط الواعدة التي أبرمتها حكومة الإقليم مؤخراً مع شركة النفط الروسية.
ولكن يجب ألا يغطي هذا الدرس على الدرس الأقسى الذي كانت ضحيته شعب الإقليم على تجرئه على طلب الحرية من خلال الاستفتاء التاريخي بنتائجه المفحمة. والحال أن كرد الإقليم، ومعهم طيف واسع من الكرد خارجه، كانوا ضحية حسابات سياسية خاطئة لمسعود بارزاني، كما لطموحاته الشخصية، وليس فقط للدرس الأمريكي الذي اتضح أنه نتيجة لتلك الحسابات. أعترف أنني ممن فشلوا في قراءة الموقف الأمريكي من الاستفتاء على حقيقته، فاعتبروا طلب التأجيل مجرد كلام دبلوماسي لإرضاء بغداد وأنقرة. ويعود سبب هذه القراءة الخاطئة إلى إصرار بارزاني على إجراء الاستفتاء في موعده، الأمر الذي أوحى بأنه قد حصل على موافقات ضمنية من بعض الحكومات، وبخاصة الإدارة الأمريكية. وإلا لما تمسك بموقفه بكل ذلك الثبات.
قد لا يكلف فشل المراقب في تحليله إلا شيئاً من مصداقيته لدى دائرة محدودة من الرأي العام، لكن فشل القائد السياسي في قراءة مواقف الدول، عدوة كانت أو حليفة، يكلف ثمناً باهظاً رأينا، إلى الآن، بداياته فقط: إحباط كبير لدى الكرد، في الإقليم وخارجه، بعدما كانت معنوياتهم في السماء قبل أسابيع قليلة. كان يمكن تفادي هذا الإحباط لو أن قوات البيشمركة هزمت بعد مقاومة. أما هذا التسليم المخزي فهو مما حول هزيمة عسكرية، كان يمكن أن تكون محدودة، إلى هزيمة كبيرة وعامة للقضية الكردية برمتها، تذكر بسقوط مهاباد (1946) واتفاق الجزائر (1975). بل هي أسوأ منهما بكثير، بالنظر إلى مسؤولية قيادة الإقليم المباشرة عنها، مرةً بسبب إصرارها على إجراء الاستفتاء من غير الحصول على ضمانات دول، ومرة ثانية باتخاذها قرار الانسحاب من كركوك بدون قتال.
لا يفيد، في هذا المقام، إلقاء مسؤولية الهزيمة على قوات «الاتحاد الوطني» واتهامها بالخيانة، أو إلقاء المسؤولية على خذلان الحليف الأمريكي، أو عدوانية الحشد الشعبي، وغيرها من الذرائع الواهية بهدف التملص من تحمل المسؤولية.
والحال أن هذه الهزيمة الكبيرة كشفت النقاب عن مقدماتها الأبعد: فشل قيادة الإقليم، على مدى عشرين عاماً من الاستقلال العملي عن بغداد، في توفير مقدمات الكيان المستقل، وأهمها توحيد قوات البيشمركة الموزعة الولاء بين أربيل والسليمانية، وكذا فيما يتعلق بالإدارات الحكومية والعائدات الاقتصادية. هذا الانشطار العمودي الذي يعني ببساطة غياب هوية وطنية كردستانية تستحق إقامة دولة مستقلة.
خدعتنا نتائج الاستفتاء، وتراجع معارضي إجرائه عن معارضتهم في اللحظة الأخيرة، فقللنا من شأن الانقسام المذكور، كما من آثار ظواهر كالفساد الحكومي، وبنية الاقتصاد الريعي، وتمسك بارزاني بالسلطة، وقمع حرية الرأي والتعبير، وإقفال البرلمان، وقوة العصبية القبلية.. إلى آخر ما هنالك من أمراض مزمنة وخطيرة، لمصلحة الإرادة الشعبية الجارفة التي بدا كما لو أن من شأنها توليد ديناميات جديدة وزخماً لتغيير كل تلك التراكمات السلبية.
وبرغم كل شيء، كان من شأن مقاومة الهجوم على كركوك، مقاومة مشرفة، حتى لو انتهت بهزيمة عسكرية، أن تفعِّل الديناميات المذكورة، وأن تؤثر حتى في مواقف الدول، وتقوي يد أربيل في مفاوضاتها مع بغداد. وإذا كان صحيحاً أن مقاتلي حزب الاتحاد الوطني قد بادروا إلى الانسحاب، بنتيجة صفقة سياسية مع طهران، فهذا لا يعفي حكومة بارزاني، وبارزاني شخصياً، من المسؤولية الأولى: فهو يعرف خير معرفة نفوذ طهران التاريخي على السليمانية، الأمر الذي تجلى بوضوح ما بعده وضوح في حرص وزير الخارجية جواد ظريف على حضور مراسم جنازة جلال طالباني. القصد أن «الخيانة» المزعومة لقيادة السليمانية، هي من نوع المعطى المعروف الذي لا يصح عدم حسبان حسابه عند اتخاذ القرار.
اقتضى الربيع العربي لوأده سبع سنوات من عمل القوى المناوئة له، مقابل ساعات قليلة، هي تلك التي استغرقها سقوط كركوك بلا قتال، كانت كافية لوأد الربيع الكردي القصير.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي
أنا استغرب تصرف الاكراد في المدن المحرره … يرفعون اعلامهم وصور زعمائهم وكأن هذا البلد ملكهم أو احتلوه …
الأكراد انقلبوا في عيون الكثير كمحتلين وسوف لن ينعموا الراحه لأنهم سيرمون ويتركوا لمصيرهم ..
الربيع العربي لم يوأد والثورة الحقيقية لم تبدأ بعد
ربط الموقف الأمريكي من الاحداث الأخيرة برفض البرزاني لمقترحات تليرسون يوحي وكان الموقف الأمريكي قد اتخذ في الأيام الأخيرة من الازمة بينما واقع الحال يشير الى ان واشنطن وطيلة السنوات الماضية كانت واضحة في رفضها لتقسيم العراق. لذا اعتقد بان إصرار البرزاني على اجراء الاستفتاء كان نابعا من احباطه الناجم عن فشله في تغيير الموقف الأمريكي او ربما الرهان الخاطئ على وقوفها الى جانبه في حالة اندلاع الازمة. إضافة لذلك فان تحرير الموصل كان أيضا من الأسباب التي دفعت البرزاني للجوء الى سياسية حرق المراحل كي لا يمنح الحكومة العراقية الوقت الكافي لأخذ النفس بما يقوي وضعها التفاوضي. ولو صح التوقع الأخير فهذا يشير الى ان البرزاني كان يعلم مسبقا بان البشمرجة لا تستطيع ان تصمد امام الجيش العراقي.