شذرات

‏لا، ما اخترت الغربة في المكان
ولا اغتراب الروح في هذا الزمان
ولا اللغة المنفية خارج الأسوار،
وهذا الذوق العجوز
الساكن في الخواء الثقيل
أصم لا يسمع صوت الحياة،
الميت لا يخرج من حي
والحي لا يخرج من ميت
لكن الأجداث يتناسلون
وقاعدون على صدر الحياة.
القلب النبيل لا يستعطف ولا يعطف
لا يسكن ولا يرمد
إن هو إلا فضاء للعقل الجسور.
الميتون يعيشون عمرهم في الجوار
في جوار اللغة يقيمون
وفي جوار الجمال
في جوار الحب راقدون
وفي جوار الحياة
الميتون يقضون عمرهم في جوار الوجود
وحين يصلهم شعاع خافت من ضوء الشمس
وصوت خفيف من موسيقى راقصة
يفرون هاربين رعبا
وخائفين من الفرح.
الميتون لا يصرخون
لا يتأوهون ولا يتأففون
يجعجعون مللا من الصمت أحياناً
وحسدا دائماً من أجنحة المجون
الميتون يكرهون ثم يكرهون.
……
ونمضي
كسواق هائمة بين الصخور العتيقة
تائهين نمضي
نتدعثر
نبحث عن المعنى
ونسأل ثم نسأل
والعالم، كل العالم، خضراء الدمن.
لا رمل الصحارى يسمعنا
ولا السماء السابعة تصغي إلينا
وحده السراب يحملنا على المسير
مذ زمان وزمان وأنا اتنقل بين ربوعك
يا وديان الرؤيا
وليس إلا الصمت
لا تبدد الوهم يا حلمي
ودع المعاني سرابا تلمع في الأفق
وخلها في جعبة الأيام.
تائهين نمضي
وقاصدين نمضي.
…….
للزمن ضفتان ومجرى،
ضفة للخائفين وأخرى للقانطين
ومجرى واحد لعشاق الحياة.
يموت أهل الضفاف فتفرح الغربان بالجثث
ويمضي سكان النهر المتسارع نحو المصب الأخير
فتحوم أرواحهم فوق بحر الحياة
نوارس من حرف ملونة بالعشق
لتحيا إلى الأبد.
….

آهٍ يا فرات
أنت يا أم الحياة وروحها الأول الأول
من ذَا الذي ذكّرك يا واهب الروح إلى العدم
وأنت رحم ونهد وحضن
وأنت أنت الأم
يا من جئت من نار الكون الأبدي
وصرت دمعاً بكاءً على موت اللهيب
يا المتوحد في هديرك وصمتك العميق
يا المتأفف دوماً من غدر الزمان
أتذكر يا فرات
أتذكر حين دشن الشقيان عشقهما عند شاطئيك
وراحا ينشدان أغنية الولادة
يا ذاكرة الأولين
ويا صديق الآخرين
تسير سعيداً إلى فنائك ولا تفنى
تمضي إلى الحضن الأخير
ولا تحفل بالنهايات.
أنت، أيها البهي، الوفي، الظاهر الخفي
الشفاف العميق، الخجول الجسور،
الوادع الشقي
كل الطغاة مروا عليك
وظل قلبك نابضاً
والروح فيك طليقة
ظهرك لم ينحن قط
وصدرك واسع
ويداك للتحايا والعناق.
تغضب كالطفل
وتضحك كالسكارى
وتحزن كابنة يافا الشريدة
وتمضي بحكمة الكون السرمدية
حباً بالحياة.
أيها الغارق في معناك
خذني إليك، خذني معك
أنشودة انت َ
تعلمتُها قبل الضياع
«خذني معك
أنا أحضرت مركبي « هو يا نهر من قلق
«إدن يا نهر إنني لست أخشى من الغرق»
أحبك أيها الفتى الجليل
فض فأنا لا أخاف الفيض
أرأيت فراتاً يخشى فرات؟
كم مرة سالت دمانا
وجرت حباً في دماك
خذني إليك
كي أبقى عزيزاً
عائشاً في زهو صباك
خذني إليك
والقني في البحر يا نهرُ
فما أنا إلا ذاك الصبي الذي
يخطو على وقع خطاك.

أكاديمي فلسطيني

شذرات

أحمد برقاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية