في بداية هذا الشهر اندلعت ما اصطلح على تسميته «أزمة تأشيرات» بين كل من أنقرة وواشنطن. الأزمة التي تسبب فيها أمر الاعتقال الذي أصدرته تركيا بحق أحد الموظفين الأتراك العاملين في القنصلية الأمريكية، على خلفية اتهامه بالتجسس وعلاقته بجماعة فتح الله غولن، المتهم بالوقوف خلف محاولة الانقلاب الفاشلة. رفضت السفارة تسليم الرجل الذي تحصن بها ولجأ إليها، مما عزز الشكوك والاتهامات حوله وحول السفارة التي استماتت في الدفاع عنه.
أعاد كل ذلك إلى الأذهان الموقف الأمريكي الرافض للتعاون تجاه تسليم الزعيم المعارض غولن، كما أعاد إلى واجهة النقاش مرة أخرى فرضية الضلوع الأمريكي في محاولة الانقلاب الدموية، التي كادت أن تعصف باستقرار تركيا.
القضية تبدو أكثر تعقيداً من مجرد أزمة دبلوماسية عابرة، حيث تجعلنا نفكر بذلك الحلف الغريب والفريد من نوعه، الذي يجمع بين دول النادي الغربي المسيحي، أو هكذا يسمى في الكثير من الأدبيات الأوروبية، وتركيا ذات الغالبية المسلمة.
في السنوات الأخيرة توسعت الهوة بين الجانبين، وتكاد العلاقة تسوء حالياً مع الولايات المتحدة، وأيضاً مع أطراف ذات تأثير مهم كألمانيا، تكاد تكون في أسوأ مراحلها، حيث يتجاوز الأمر في كثير من الأحيان مرحلة الدعاية الإعلامية ليصل حد التصريحات التي تخرج من شخصيات نافذة في قيادة البلدين، بالإضافة إلى عامل الشكوك التي راودت الأتراك حول الدور الذي ساهم به الحلفاء المفترضون في المحاولة الانقلابية، فإنه يظهر كذلك أن حلف الناتو الذي يجمع الجميع ليس معنياً بشكل رئيس بحماية الأمن التركي، أو بالتضامن مع تركيا، في وجه أهم التحديات التي تواجهها كالجماعات الفوضوية الكردية التي تقوم من حين لآخر بهجمات إرهابية داخل أراضيها، بل يبدو أن الحلفاء مشغولون فقط بحماية مصالحهم المباشرة بدون محاولة أخذ الهواجس التركية بعين الاعتبار، وهو ما يظهر في الدعم السخي الذي تقدمه واشنطن لهذه المجموعات، ومحاولة تمكينها من اقتطاع مساحات من الأرض السورية بحجة مقاتلتها تنظيم «الدولة الإسلامية».
الحلبة السورية مثال جيد على الحلف الذي يحمل كل طرف من أطرافه أجندة عسكرية مختلفة عن الآخر، وقد تجلى ذلك في عملية درع الفرات التركية، كما تجلى في العملية التي خططت لها تركيا بتنسيق مع كل من إيران وروسيا في منطقة إدلب الشمالية، في مقابل تحركات مناقضة يقوم بها الأمريكيون وحلفهم المدعوم على الأرض بجماعات كردية أكثرها انفصالي النزعة.
انضمت تركيا لحلف الناتو عام 1952 ولوقت طويل ظلت تصف نفسها كجزء من المنظومة الغربية المدعومة من الولايات المتحدة، التي كان من أهم أهدافها عرقلة محاولات التوسع السوفييتي الشيوعي، سواء أكانت تلك المحاولات تتمثل في مجال الأرض أو مجال كسب حلفاء جدد. تركيا لموقعها الاستراتيجي والوسطي بين كل من روسيا وأوروبا كانت محط استهداف وكانت تشكل تهديداً فعلياً على الدول الأوروبية وعلى غيرها من الحلفاء الغربيين لو كانت انضمت، أو حتى تعاطفت، مع المنابر الشيوعية.
منذ ذلك الحين، ورغم بعض المد والجزر، إلا أن تركيا ظلت جزءاً أصيلاً من حلف شمال الأطلسي، وكثيراً ما كانت توصف بأنها الجيش الأكثر أهمية فيه، كما كانت تمتدح جهودها في مساندة الولايات المتحدة في حملتها ضد «الإرهاب» خاصة في أيام تلك الحملة الأولى (غزو أفغانستان). إلا أن الجانب السياسي، على أهميته، لا يمثل كل شيء، صحيح أن الساحة الدولية شهدت تغيرات درامية كثيرة كسقوط جدار برلين ومن خلفه الدولة الشيوعية، والكثير من الحروب التي شهدتها المنطقة، والتي كان لها تبعات ما زلنا نعايش آثارها حتى الآن، إلا أن التغيير الأهم كان التغيير الداخلي الذي شهدته تركيا نفسها.
ربما ظنت الزمرة العلمانية التي حكمت الجمهورية التركية الحديثة التي تولدت من رحم دولة الخلافة الإسلامية، والتي عملت بشكل دؤوب وقاسٍ على محاربة المظاهر الإسلامية، وقطع أي علاقة تربط شعبها بالدين الإسلامي وحتى بالعرب أو الدول العربية، ربما ظنت أن هذه الإجراءات والعقوبات والمنع الذي لا تسامح فيه تجاه شعائر إسلامية بسيطة، كالحجاب ومدارس تحفيظ القرآن قد تقود لولادة جيل مختلف يتحول مع مرور الأيام لنسخة تركية من الحضارة الأوروبية. نسخة لا تحوي سوى اسم مختلف في خانة الدين.
الرهان على ذلك بدا جاداً، ليس فقط عند تلك الزمرة، ولكن أيضاً عند الغرب الذي ظل يمجد بنفاق شديد وتناقض مع مبادئه الدولة الجديدة كمثال يحتذى، رغم إدراكه حقيقة أن العلمانية لا تعني منع ممارسة أي دين أو ملاحقة أصحابه المتمسكين بشعائره. تمثل ذلك الرهان في الدعم والرعاية الذين وجدتهما تركيا الأتاتوركية من حلفائها الغربيين، الذين بدوا مستعدين لتأمينها وللدفاع عن حدودها ولتقديم منح مالية سخية لها، من أجل تقوية جيشها واقتصادها وإبرازها كمثال ناجح للمزاوجة بين الإسلام والقيم الأوروبية العلمانية. إلا أن كل شيء قد تغير بشكل سريع ودرامي خلال العقدين الأخيرين.
حكمت الدولة التركية نخبة مختلفة بدت أكثر محافظة وتقليدية وأكثر تمسكاً بهويتها الإسلامية. لدهشة المنظرين والمراقبين فإن هذا التحول الذي كان محكوماً عليه بالفشل، للظن بأن الناخب التركي الذي تربى على قيم الليبرالية لن يميل لانتخاب رموز تريد استعادة تراث ما قبل الجمهورية، هذا التحول نجح نجاحاً كبيراً على أكثر من صعيد. على صعيد النخبة، والشبيبة التركية تحديداً، من الذين أرادوا استعادة المجد المرتبط بتاريخ بلادهم الإسلامي، وعلى الصعيد المادي والاقتصادي البحت المتمثل في خروج تركيا من حزام الدول المدينة، والأقل نمواً، إلى نطاق الدول المانحة والداعمة باقتصاد يعد من بين الأقوى على المستوى الإقليمي، بل الدولي.
ورغم أن الآراء تتنوع هنا حول نقطة ما، إذا كانت تركيا الحالية تمثل تجربة إسلامية بما تعنيه الكلمة وبما تشير إليه أدبيات الجماعات والحركات الإسلامية أم لا. رغم ذلك فإن مما لا شك فيه أن النخبة الحاكمة، ومع إعلانها الاحترام الكامل للعلمانية إلا أنها تقدم علمانية مختلفة ومزيجاً فريداً من الروح القومية التي يعتز بها الأتراك والدين الإسلامي الذي يفتخرون بارتباطهم به. ربما يكون كل ذلك قد أدى لما يمكن وصفه بالالتباس في العلاقة بين الجانبين، حيث تغيرت الآن النظرة الأوروبية إلى الدولة التركية، فلم تعد تلك التي يتم التغطية على ما في نظامها من عيوب (عيوب الجمهورية الأولى كانت أكثر من أن تحصى)، بل أصبحت التي يتم تكثيف الأضواء والانتقادات على كل ما تقوم به من خطوات، مع تمنيات لا تخطؤها العين لقيادتها بالفشل، وهو ما ظهر في متابعة الإعلام الغربي للانتخابات التركية الأخيرة وانتقاده لفوز زعيم حزب العدالة والتنمية بفارق ضئيل عن منافسه، رغم أن هذا هو الحال في أغلب الممارسات الديمقراطية.
هل تريد القوى الغربية إخراج تركيا من حلف الناتو؟ الإجابة التي تكررها دول الحلف وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، هي أن تركيا شريك استراتيجي مهم لا يمكن خسارته، وأن هناك الكثير من الفوائد التي يحصدها الجانبان من خلال اشتراكهما في هذا التحالف.
يبقى تفسير وحيد لتصاعد الخلاف مع أنقرة وهو أن الغربيين يريدون الاحتفاظ بتركيا بينهم، لكنهم يريدون تركيا أخرى غير التي يقودها ويحلم بها الطيب أردوغان.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح