يعني قتل الأب ثقافيا النسيان، من جهة، أو التجاوز من جهة أخرى. وبينهما فرق كبير. فالتجاوز يعني مواصلة ما بدأه الأب عن طريق التجديد المستمر. أما النسيان فهو البحث عن الجديد الذي يقطع الصلة مع الماضي ويؤسس لصيرورة جديدة لا علاقة لها بالأصول.
في تاريخنا الحديث يهيمن النسيان والتناسي والجحود، بدعوى الرغبة في التجاوز عن طريق القطيعة. وكلما تحول شاب ما إلى أب، فكّر في قتل الأب بالكيفية نفسها، وقد يكون الارتداد إلى الجد، فتكون الدائرة التي تحول النسيان إلى لعبة ثقافية تقوم على التقدم القائم على الارتداد.
من قرأ «لعبة النسيان» لمحمد برادة قراءة سردية تأويلية، يجد فيها ثقافة قتل الأب عن طريق تناسيه وعدم الاعتراف به لفائدة الأم. في اجتماع حزبي تناقش فيه قضية الاعتقالات، يطول حبل التدخلات جوابا عن سؤال: ما العمل؟ يقترح أحد المناضلين التصعيد، والخروج إلى الشارع، يرفض الاقتراح لأنه ليس جادا. ويأتي تدخل راوي لعبة النسيان ليسأل سؤالا لا علاقة له بالموضوع: من يذكر منكم أمي؟ طالبا من الجميع الحكي عن الأم. يستنكر مسير جلسة ما العمل؟ هذه التدخلات غير الجادة، لكن الراوي يصر على أن الحكي عن الطفولة والأمهات والتعارف أكثر، يمكن أن يكون مساندا للجميع في الظروف الصعبة.
يغيب في الثقافة العربية الحديثة الكثير من التقاليد الكتابية التي عرفتها الثقافة العربية القديمة، وتعرفها حاليا ثقافات الأمم المتقدمة. ارتبطت بعض هذه الكتابات المفتقدة في تقاليدنا الحديثة بعلوم مثل علم الاجتماع وعلم النفس بصورة خاصة، في الثقافة الغربية، وبما كان متصلا في التراث العربي بكتب الفهارس والتراجم وعلم الرجال. كانت هذه التقاليد العربية القديمة والغربية الحديثة تعمل على البحث في حيوات المبدعين والعلماء والمفكرين، وتتبع العوامل التي ساهمت في جعلهم يلعبون الأدوار التي اضطلعوا بها في الحياة الثقافية والفكرية، وتصل الأجيال الجديدة بالأصول التي تشكلت في زمان غير زمانها، محققة بذلك نوعا من الصيرورة التي تؤكد الاستمرار والتجاوز القائم على المعرفة الدقيقة بما أنجزه الآباء.
إن الصراع بين الأجيال ضرورة لأن كل جيل يعيش زمانه المختلف عن الأزمنة السابقة. ولا يمكن للجيل الجديد أن يكون ابن زمانه إلا بعد أن يلم بما قدمته الأجيال السابقة، ليكون في المستوى الذي يؤهله للتجاوز. ولعبة نسيان الأجيال في ثقافتنا العربية الحديثة تقوم على مفارقة كبيرة تكمن في إما: التنكر وتناسي ما قدمته الأجيال السابقة، بدعوى «القطيعة» مع الماضي من جهة، أو «المحاكاة التامة» للسلف بهدف استعادة الأمجاد من جهة أخرى. وبين «القطيعة» و»المحاكاة» تغيب الرؤية السديدة التي يمكن أن يتبناها الجيل الجديد، والتي تتجلى في إقامة الجسور مع الماضي بهدف الانتقال إلى التطوير المفتوح على المستقبل.
ساهمت عوامل كثيرة في ممارسة تلك المفارقة في واقعنا الحالي. ولعل للحساسية السياسية والأيديولوجية التي كانت مهيمنة في منعطفات التحولات الكبرى في الواقع العربي دورا أساسيا في ذلك. إن السياسة حين لا تكون مبنية على ركيزة الحوار الديمقراطي، لا يكون سوى الإلغاء وإقصاء الآخر المختلف أيديولوجيا وثقافيا واجتماعيا. وما نشهده حاليا، وعلى المستويات العربية كافة، خير تجسيد لهذه الصورة التي تعكس هيمنة هذه العلاقة بين الأجيال. حين يسأل الراوي في «لعبة النسيان»: من يذكر منكم أمي؟ في نقاش حول: ما العمل هنا والآن؟ يكون في الواقع يسعى إلى «القطيعة» مع الفكر السائد الذي يمارس «القتل». إن تدخل المناضل الذي سبق الراوي يقول بضرورة الخروج إلى الشارع، وإطلاق الرصاص على كل من هب ودب. ورغم ادعاء الراوي، حين يسأل: لماذا لا نحكي عن آبائنا؟ عدم معرفته بأبيه لأنه مات وهو صغير، فإن سؤال «تذكر» الأم ليس سوى محاولة لتجاوز النسيان: نسيان الماضي، بما فيه من طفولة، وعلاقات. ودلالة سؤال الراوي تعني ربط الجسور مع الذاكرة بهدف «التعارف» والتقارب بين المناضلين، وإقامة الجسور العميقة بينهم، بدل إطلاق الكلام الذي يخرج من الفم بدون أن تكون له أصول.
اعتبرت رواية «لعبة النسيان» لحظة صدورها تحولا في مسار تفكير محمد برادة، وتغيرا في رؤيته للعالم وللعلاقات. لقد كان ابن زمانه، متشبعا بالمستقبل، ومنخرطا فيه بجدية لا نظير لها. لقد كان واحدا من «الجيل الموتور» الذي يسعى إلى التخلص من الماضي والقطيعة معه. وما مساهماته في الكتابة النقدية والترجمة والإبداع سوى دليل على ذلك. لكن تحول الواقع والأشخاص لا يمكن إلا أن يجعلنا نعيد التفكير في العلاقة مع الذاكرة، وطرح سؤال النسيان.
بدأت تشيع في التظاهرات الثقافية العربية لغة «الاعتراف» و»المصالحة». لكن هل تكفي إقامة نشاط ثقافي تكريما لمحمد برادة، أو لعبد الكريم غلاب، وهما من جيلين جاء أحدهما ليلغي الآخر، ويقصيه؟ كيف يمكننا بناء الجسور بين محمد برادة، وعبد الكريم غلاب؟ كيف يمكننا جعل الجسور بين الأجيال واقعا مستداما؟ إنه سؤال التجسير الذي يردم الهوة، ويقيم العلاقة مع الذاكرة، ويحقق التجاوز.
٭ كاتب مغربي
سعيد يقطين
علي الاعتراف اني قد شعرت و انا انتهي من قراءة مقال السيد سعيد
–
يقطين بوخز من ضميري ” الثقافي ” و تأنيبه لي لكوني قد فوت علي
–
مرارا قراءة رواية ” لعبة النسيان ” للأديب و الناقد محمد برادة ما يعظم
–
مرارتي هو كون الرواية تلك كانت في متناولي غير ما مرة و لم اخظى
–
بمطالعتها قط يقيني ان هذه القراءة التي جاد بها السيد يقطين لمضمونها
–
ستدفعني لقراءتها عاجلا
–
تحياتي
هذه المعضلة الكبيرة تقض مضاجع الفكر العربي منذ عصر النهضة وتمحورت حول سؤال هل نبقى فكريا ضمن التراث والتقوقع في الماضي أم ننسى هذا التراث ونتوجه فكريا الى ما انتجه الفكر الغربي والانفتاح على الغرب ” الاستعماري ” اي القطيعة مع الماضي، والواقع أن مفكري المغرب من امثال محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، ومحمد برادة، ومحمد بنيس وسواهم من مفكرين مغاربة ايضا من امثال عبد المجيد الشرفي، وهشام جعيط، ومحمد أركون وسواهم قد ساهموا كثيرا في سبر هذا التناقض في الفكر، واعتقد أن التحول الفكري في فكر محمد برادة جاء بعد قناعة بأن القطيعة مع الماضي ( الاب والجد) هو فقدان للهوية والانتقال الى هوية هجينية مدمرة، واليوم نحن مازلنا في مرحلة التخبط ولم نصل الى صياغة كينونة فكرية تشكل تيارا يوجهنا نحو مستقبل حداثي ذي خصوصية كالهنود مثلا، او الصينيين وسواهم من الشعوب الذين خطوا لأنفسهم مسارات خاصة بهم دون الانجرار وراء الفكر الغربي