معجزة العقل

حجم الخط
17

كان يمكن للحدث أن يكون عاديا، على مستوى جامعة كامبريدج فقط، لو أن الأمر توقف في عقرها وفي محيطها، لكنه تجاوز حدودها ليشمل الجماهير الأكاديمية على المستوى العالمي، بذلك الإقبال الخرافي على موقعها بمناسبة فتح الباب للقراء للاطلاع على أطروحة ستيفن هوكينغ التي تحمل عنوان: «خصائص توسع الكون»،
الأطروحة التي أنجزها هوكينغ في عمر الرابعة والعشرين وأنهاها سنة 1966 اختصت بأصل الكون، وظلت حبيسة المكتبة الجامعية لأكثر من نصف قرن.
عدم نشرها آنذاك قد تكون له أسباب كثيرة، منها أن فكر هوكينغ تقدم أقرانه، وكان من الصعب فهم نظرياته بسهولة، ولعل الذين تابعوا فيلم حياته يعرفون نوع عبقرية الرجل. المثير للدهشة أن هوكينغ رغم مرضه العصيب، ظل مثابرا على الاشتغال على مشروعه، ونظريته التي كانت مجرد فرضية بالنسبة لكل المحيطين به، وأصبحت حقيقة اليوم بتطور التكنولوجيا واجتهاد طلبة وأساتذة على مدى نصف قرن على تفكيك ألغاز تلك النظرية والبحث فيها. لا أحد هدد هوكينغ بالكفر، ولا أحد تشفى فيه لأنه أصيب بهذا المرض النادر الذي أعاقه عن الحركة والكلام، ما رآه المجتمع المنبثق منه أنه «معجزة العقل» في حد ذاته، فالناظر إليه لن يرى سوى كائن أشبه بطفل في عمره الجنيني، ولكن معجزة العقل الإنساني هي هذه بكل كمالها.
إن كنا مؤمنين بعظمة الله وعظمة خلقه فإن هوكينغ معجزة قرننا، وإن كنا غير ذلك أيضا فلا شيء سيتغير، إنه معجزة العقل.
ما أثار انتباهي أن هذا الحدث مرّ كخبر «مثير» في الصفحات الأخيرة لصحفنا، تحت بند غرائب العالم وعجائبه، ومع هذا لم يلفت انتباه المثقفين العرب، فقد طغى السياسي بكل صراعاته القبلية القديمة المتجددة على موادنا الإعلامية، أما الصروح الجامعية فهي خاوية من نقاشات في هذا الحجم.
صحيح أن نظرية هوكينغ ليست نهائية، إنها فرضية، وهو يملك موالين ومعارضين له، لكن السجال المفتوح بشأنه وبشأن ما طرحه من الصعب أن يتعاطى فيه رجل الدين، ورجل السياسة لأنه يفوقهم، ولأن الأمور أصبحت مفصولة تقريبا في الغرب، إذ لم يعد التداخل والتشابك الذي نعاني منه نحن موجودا لديهم بعد أن قطعوه بمسافات زمنية طويلة ومتباينة بين بلد وآخر.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو لماذا يحافظ الغرب على هذه العقول المثيرة للشك ولماذا نقضي نحن عليها؟ هل ترتبط نسبة الكفر والإيمان في أي مجتمع بوجود عقل مثل عقل هوكينغ فيها؟ المتأمل لمساره العلمي يكتشف أن الملتفين حوله، سواء خالفوه أو ناقضوه يعملون جاهدين للبحث عن مزيد من الحقيقة، بعيدا عن فكرة «من خلق الكون؟» هل انبثق من العدم أم خلقه الله؟ لأنه في كلتا الحالتين ما أرّق هوكينغ هو عملية استمرار الكون في التوالد، مؤكدا أن: «فكرة الإله الخالق لا تتعارض مع الفهم العلمي للكون». أما نقاش الدينيين له فهو قائم فقط على إلحاد هوكينغ، في محاولة يائسة لإعادته إلى الرعية المؤمنة بالله، مع ملاحظة أن هذه الرعية مشتّتة أكثر من رعية الإلحاد التي تؤمن بالعلم، ولا تفتك ببني جلدتها من أجل مكان في الجنة. إنها رعية متعددة الآلهة، لا يوحدها قانون ولا وحدوية الله التي تنادي بها، عكس علم الفيزياء الذي تناهي في دقته إلى بلوغ أحادية التوجه ووحدته.
من باب الرؤية الأوضح ما الذي سيتغير في المرء إن آمن أو ألحد؟ أو بطرح آخر إن كان لدينا ملحد على نسق هوكينغ أو مؤمن على نسق أبو مصعب الزرقاوي، فمن نفضل أن يعيش بيننا؟ أو بطرح مختلف تماما، أي الأنظمة نفضل أن نعيش تحت ظلالها؟ هل نفضل نظاما مثل النظام الفرنسي أو الكندي أو البريطاني، أو نظاما مثل الذي دمّر أفغانستان من شدة الإيمان؟ إن تدرجنا في الأجوبة وتناولناها بتسلسل منطقي، سيجعلنا نكتشف أن توجهاتنا الإيمانية مفبركة، وأن إيماننا ملغم، وأنه خاضع لقرارات تطبخ في مطابخ دول وتنفذها دول، وأن الإيمان الفطري النابع من القلب لا وجود له، حيث نعتقد أنه موجود، إنه أقوى في قلوب من يؤمنون بقوة أن الكون مترابط بقوانين فيزيائية دقيقة، وأنّه أكثر اتساعا من الخرائط التي نرسمها ونحدد فيها ما هو لنا وما هو للآخرين، حسب نوعية المعتقد الذي نؤمن به.
قرن من التأجيل إذن لنشر أطروحة هوكينغ إلكترونيا، بقي الفكر الديني خلاله مكانه يرفع السيوف ويهوي بها على الرؤوس وإن اختلفت فكرة «لأي إله يقاتل المقاتلون؟» تعافت أوروبا من حربها العالمية الثانية، واندلعت في الشرق بدءا بحرب فيتنام، إلى الحرب العراقية الإيرانية أو حرب الخليج الأولى، إلى حرب الخليج الثانية، إلى حروبنا الحالية… ملايين الموتى أمام عطل غريب في العقل البشري، وتحديدا العقل العربي الذي كان مُستعمَرا فتفهمناه، ثم مستقلا فما عدنا نفهمه.
تقول الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية إليزابيث بادنتر ـ وهي سيدة أعمال أيضا: «وحدها اللائكية تحقق التعايش السلمي لجماعات بشرية عديدة قادمة من ثقافات دينية مختلفة»، هذه فكرة صحيحة، وقد لمسناها إلى أعمق أعماقها في الهجرة المجنونة لنازحينا من أوطانهم المحترقة تحت رحى الحرب، إلى أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا. ولعلنا نطمح لصنع عالم مماثل، لكننا لا نملك الشجاعة لنطالب بالتغييرات. قوافل الموتى التي ذهبت ضحية آرائها تعيدنا دوما إلى نقطة الصفر في أعتم بقعة من تاريخ الفكر البشري.
واليوم حين ندخل بقرارات سياسية نحو تغييرات كبرى، سواء لتعديل إسلامنا أو لإعادته إلى ما كان عليه، علينا أن نطرح السؤال الأخطر الذي لم نطرحه إلى اليوم: ما الذي أوصل العالم الإسلامي إلى ما وصل إليه سوى هذه القرارات التي تنبعث مع حكام وتموت مع آخرين؟ وماذا يمكن للقرار السياسي أن يغير في تلك الأعماق التي تلوثت على مدى دهر؟ ولم ينرها العلم؟ ولم تنهل من نبع علمي متواصل؟ أين تكمن الخطورة حين تقاد الشعوب بقرارات لا بإنارة أفكارها؟
نعرف اليوم – ليس فقط عن خبرة بل توثيق لكل ما حدث – أن كسر عجلة العلم بفتوى، أدخل العالم الإسلامي في أنفاق مظلمة على مدى قرون، نعرف أيضا أن الثالوث الأخطر اليوم هو «الدين، السياسة، العلم» وأن غربلة العلم بغربال الدين مهانة للعلم وكارثة للإنسان، وتعليق العلم بحبل السياسة قتل بطيء له، وتحالف الدين والسياسة تسميم لهذا الإنسان وتعطيل لعقله، مع قائمة طويلة من التأثيرات الجانبية التي تجعل العقل يفرز مواد قاتلة، كلما وضع بينهما وضغط بتزايد حجمهما عن العادي.
نعمة العقل يستحيل أن نراها ونعيشها في غير فضاء حر، وفكرة اتساع الكون وشساعته يجب أن تكون أمام أعيننا، سواء كانت على طريقة هوكينغ أو طريقة جلال الدين الرومي، إذ أنه من الواضح اليوم أن ضيق المكان بنا كما نراه انعكاس لضيق أفكارنا، وهو الذي جعلنا نقبع كمحاربين في أمكنتنا منذ قرون وندافع عنه كما يفعل أي حيوان بري حين يشعر باعتداء حيوان آخر عليه.

شاعرة وإعلامية من البحرين

معجزة العقل

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سلام عادل(المانيا):

    بايجاز وبكلمة واحدة الكلمة الاولى تبقى للعلم وما على الدين والفلسفة الا الانجرار للحقائق العلمية والا سيكونان في غرف التجميد

  2. يقول جواد:

    “العلمانية ليست ضد الدين، لكنها ضد استعمال الدين في تطويع المجتمع”
    طلعت العلمانية طيبة و كريمة و الله .
    و الغرب و صهيون أطيب و أكرم حينما يملون على طغاة العرب محاربة
    الدين أهله في مجتمعاتنا ..
    رفقا بعقولنا يرحمكم الله .

  3. يقول ابن الوليد. المانيا.:

    للاشارة، تواتر الاحداث، جعل من تركيا دولة علمانية تحدو حدو المانيا. هل هدا صدفة؟ لا ادري …
    .
    تركيا يحكمها حزب علماني ينهل من قيم الدين الاسلامي، و نحن نرى التقدم السريع هناك في مختلف المجالات.
    هذا دليل على ان العلمانية فيها حلول لمعضلتنا، الا و هي الخلط بين الدين و الواقع الدنيوي، و قياس ما لا يستقيم قياسه.

  4. يقول Firas/cuba:

    كقارئ قديم لصحيفة القدس العربي ومتابع لقرأة التعقيبات و ارى كتابات السيد ابن الوليد من المانيا جداً عقلانية ومنطقة و هذا يدل على علم و ثقافة عالية .و ايضاً كنت منتظر تعليق الاستاذ اوسامة من المانيا بما انه مختص في علم الفيزياء والموضوع هو عن العالم ستيفن هوكينغ.

  5. يقول ابن الوليد. المانيا.:

    الاخ فراسFiras/cuba ،
    .
    اشكرك اخي الكريم و بارك الله فيك.
    .
    هناك مختصين كثيرين هنا في الفيزاء، اذكر منهم الاخ اثير من العراق، الاخ اسامة و ابن الوليد كذلك. و خصوصا مع الاخ اسامة، مرات عديدة نستمتع بالنقاش ان كان الموضوع علمي، ربما سيعقب اليوم ان اطلقت بنته سينا سراحه :).
    .
    تحية لك في كوبا.

  6. يقول omar..jordan:

    لاهل الفيزياء .. هل يمكن صناعة نظام ديناميكي موحد بمركزي ثقل ثابتين في ان واحد؟؟.. هل يمكن خلق دوامه ميكانيكيه لا نهائيه في حوض سائل يحتوي على كثافتين؟؟.. هل يمكن خلق طاقه كهربائيه لا متناهيه من ميكانيكا طفو ماده صلبه في حوض ماده سائله؟؟..

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية