من الصعب ان لا يساور المرء قلق شديد وهو يتابع ما يجري في المنطقة من حوادث لم تكن متوقعة حتى وقت قريب. ففي ضوء التأكيدات الغربية بان مسار الاستخلاف في المملكة العربية السعودية مستقر، وانه يتم وفق اعراف ثابتة منذ وفاة الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود في العام 1953 لم يكن هناك توقعات بما يجري منذ ان تولى الملك سلمان بن عبد العزيز منصبه قبل اكثر من عامين. يومها كان هناك احتمال ان يكون آخر الملوك من ابناء عبد العزيز، ولكن ما فات الكثيرين ان الانتقال إلى جيل الاحفاد لن يكون بالسهولة التي صاحبت تداول الابناء الستة الحكم بعد وفاة المؤسس (سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله وسلمان). بعض حالات التداول لم تكن بالطرق الهادئة، فقد أزيح سعود في 1965 بسبب مرضه، واغتيل فيصل في 1975.
ولكن ما يحدث الآن في المملكة خارج عن المألوف والمتوقع، ويمكن اعتباره زلزالا كبيرا في البيت السعودي. فلم يحدث من قبل ان اعتقل العشرات من أفراد العائلة، من بينهم واحد من اكبر اثرياء العالم. اكثر من مائتي شخص وجدوا انفسهم تحت رحمة اجهزة الامن والشرطة التي كان جدهم قد أسسها لحماية العائلة من مناوئيها، وليس لاستخدامها في الصراعات الداخلية. برغم ذلك كان واضحا ان ما فعله الامير الشاب، محمد بن سلمان، منذ استلام والده الحكم بعد رحيل عمه، الملك عبد الله في 2014 كان خارجا عن المألوف من السياسات السعودية، فقد خرجت تلك السياسة عن اسلوبها الهادئ لتصبح اكثر ضجيجا وارهاقا للتوازن المحلي والاقليمي. في البداية تظاهر الامير بانه ملتزم بالاعراف المتبعة، فتم الاعلان عن اسناد ولاية العهد لابن عمه، محمد بن نايف، ولكن سرعان ما انقلب عليه وازاحه وفرض عليه الاقامة الجبرية. والواضح ان مسألة انتقال الحكم من الاولاد إلى الاحفاد لم يكن موضع توافق مجلس العائلة، فتم استبعاد الامير مقرن بن عبد العزيز الذي كان ينتظر دوره، كما استبعد آخرون من ولاية العهد.
لم يكن التغير في السياسات السعودية، كما اسلفنا، هادئا، بل اتسم بالصخب والتحدي. وتزامن ذلك مع وضوح امور ثلاثة:
أولا: تقارب المملكة مع «اسرائيل» بشكل غير مسبوق.
ثانيا: ودعم المجموعات المسلحة في عدد من البلدان مثل سوريا والعراق.
ثالثا: قيام تحالف جديد داخل مجلس التعاون بين الرياض وابوظبي، وبروز دور كبير لحاكم الامارات، محمد بن زايد، وتأثير مباشر على محمد بن سلمان. وتوازى مع ذلك انتهاج المملكة سياسات هجومية على كافة الصعدان، لم تكن مألوفة في الجزيرة العربية.
كان اعلان الحرب على اليمن مفاجئا للكثيرين، برغم وجود الصراع على النفوذ الاقليمي مع إيران. الامر اللافت ان تلك التطورات ظهرت بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الست، الامر الذي قرأت الرياض فيه بداية تغير في التحالفات الاقليمية والدولية، وان إيران التي عانت من الحصار الشديد اثني عشر عاما، ستتوفر لها امكانات تطوير امكاناتها الاقتصادية والتكنولوجية، بالاضافة لنفوذها الاقليمي. وكانت حوادث العام 2011 المرتبطة بثورات الربيع العربي، مصدر قلق كبير لدى حكام الدول العربية، خصوصا السعودية التي كادت الثورات تصلها. وبرغم ما يقوله البعض عن دوافع تلك الحراكات التي لم تشهد المنطقة لها مثيلا في التاريخ المعاصر، والزعم بوجود ايد خفية حركتها، فانها كانت تعبيرا عن حيوية الشعوب العربية برغم المحاولات المتواصلة لقتل طموحاتها. والصحيح ان التدخل في تلك الثورات حدث لاحقا، باعادة توجيهها نحو التطرف والعنف والإرهاب والطائفية. وذلك ما فعلته قوى الثورة المضادة التي قادتها «اسرائيل» ودعمت باموال النفط السعودي، وحظيت بمباركة التحالف الانكلو-أمريكي. وما حدث في العراق وسوريا وليبيا لاحقا انما كان مآلات خططت لها قوى الثورة المضادة، واتبعتها لاحقا بحرب اليمن. ويمكن القول ان السعودية اطلقت سياساتها الصاخبة الجديدة بارسال قواتها العسكرية إلى البحرين لقمع ثورتها بعد شهر واحد من انطلاقها في 14 شباط/فبراير 2011. كان ذلك بالون اختبار للجميع، خصوصا للموقف الغربي الذي طالما رفع شعار الديمقراطية وحقوق الانسان. ولما لم يظهر الغربيون ردة فعل داعمة للتحول الديمقراطي، شعر تحالف قوى الثورة المضادة بحرية مطلقة لاتخاذ ما يشار من اجراءات للحفاظ على الوضع الراهن. اما الدول التي لم تلتزم بذلك فقد استهدفت بشراسة اكبر. فقد تعرضت إيران لحملة بدأتها «اسرائيل» لمنع تبلور الاتفاق النووي.
السعودية رأت في الربيع العربي احد مظاهر توسع النفوذ الإيراني. ومن المتوقع ان تتصاعد تلك النغمة الآن بعد هزيمة داعش بشكل حاسم في كل من العراق وسوريا. فقد كانت المنظمات الإرهابية وعلى رأسها داعش تحديا كبيرا للامة، وليس لإيران فحسب، ومشروعا بديلا للتحول الديمقراطي. ولذلك فما ان اتضح حجم خسائرها حتى ارتفعت الاصوات مجددا محذرة من «توسع النفوذ الإيراني». من المؤكد ان لإيران نفوذا في المنطقة، ورغبة في توسيع ذلك النفوذ، فهذا شأن الدول الكبيرة.
الوضع السعودي اصبح مؤشرا لمدى استقرار المنطقة واضطرابها، لاعتبارات عديدة: فعندما تتحالف الرياض مع تل أبيب فان ذلك يؤدي للمزيد من الاضطراب لأنه يشجع الاحتلال على التمادي وتوسيع مستوطناته والامعان برفض قيام دولة فلسطينية، وتوسيع دائرة نفوذه إلى ما وراء فلسطين. وحين تستهدف قوى التغيير فان المنطقة تصبح مهددة بالمزيد من القمع وتوسع دائرته وضمور الحريات وتراجع الحقوق. وحين تجنح الرياض نحو الحرب فان حروبها مدمرة لأنها مدعومة باسلحة متطورة وانفاق هائل وصفقات عملاقة. وحين تختلف اجنحة الحكم في السعودية فهذا امر يبعث على القلق ايضا لأنه يضعف الدولة كثيرا، واذا ضعف المركز تلاشت قوة الاطراف وتصاعدت النزعة للانفصال، وطمعت الاقليات في تحدي السلطة المركزية، كما حدث في العراق مؤخرا عندما حاول الاكراد الانفصال عن بغداد. فالدولة الضعيفة تصبح وبالا على شعبها وجيرانها والامن الدولي. وهذا ما حدث للعراق عندما استهدف بالإرهاب وضعفت الدولة المركزية وتشجعت الاطراف للتمرد. ولكن بعد ان خاضت بغداد معاركها الاخيرة ضد داعش وتمكنت من ذلك اصبح لها شأن آخر. وهكذا ساهمت السعودية في تقوية العراق واستقلاله العسكري بدون علمها. كما انها ساهمت في تقوية اليمن الذي سيخرج من الحرب اقوى منه حين فرضت عليه. وستكون العراق وسوريا أشد بأسا بعد دحر المجموعات التي تدعمها السعودية. اما قطر فهي الاخرى لها قصتها ومحنتها مع السعودية، والحرب عليها من قبل الرياض خاسرة لان قطر ليست خصما حقيقيا للمملكة السعودية، ولا تمثل منافسة حقيقية للحكم السعودي. صحيح ان للدوحة سياسات خارجية اكثر استقلالا من غيرها، وصداقات مع مجموعات إسلامية وسياسية في العديد من الدول، وقدرة على التفاهم مع كبرى الحركات الإسلامية في العالم، ولكنها لم تسع يوما لخلخلة الامن السعودي. كما انها ليست عنصر تخريب في المنطقة او اثارة، وان كانت قناة «الجزيرة» التابعة لها قد كسرت حواجز اعلامية كانت الامبراطورية الاعلامية السعودية قد فرضتها على العالم العربي. السعودية تعاني كذلك من ضعف بنيوي في الوقت الحاضر، ولن تسعفها كثيرا خطة 2030 التي يروجها الغربيون كمشروع اصلاحي واسع، مع ان محتواها ضعيف ولا يعبر عن قراءة دقيقة للوضعين المحلي والدولي.
٭ كاتب بحريني
د. سعيد الشهابي
السعودية تلعب دورا خطيرا في المنطقة العربية تحارب التحول الديمقراطي في الدول العربية تحارب الاحزاب والتيارات الاسلامية السياسية تحارب النفوذ الشيعي وحاربت سابقا التيارات اليسارية وهي باختصار عصا في يد الاستعمار الغربي.