أثارت الإجراءات الغريبة والمتلاحقة التي اتخذها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في البلاد دهشة العالم وحيرته في الوقت نفسه. ولم يبق كاتب أو محلل أو صحيفة أو موقع إعلامي أو مركز بحث، من دون تقديم تحليل لما يجري في السعودية، في محاولة لفهم المسار الذي تأخذه البلاد.
كما أشار كثير من التعليقات إلى التنسيق مع الإدارة الأمريكية، على إثر زيارة جيراد كوشنير قبل أقل من أسبوع من ليلة السبت التي أطاحت بالأمراء والوزراء ورجال المال والإعلام. لكنني سآخذ في مقالي منحى آخر ليس بالضرورة حول الإجراءات، بل حول طبيعية النظام الفريد من نوعه في العالم، واقترابه من نقطة الانفجار الداخلي ووضع هذه الإجراءات في سياقها السليم، كمحاولة لبناء دولة شمولية على طريقة كوريا الشمالية.
يقسّم علماء العلوم السياسية أنواع النظم إلى قسمين كبيرين- نظام يمثل إرادة الشعب ويصل السلطة عن طريق آلية متفق عليها لاختيار قيادة البلاد، فردا كان أو حزبا أو كليهما، ويطلق على هذا النوع النظم الديمقراطية بكافة أشكالها وألوانها وتنويعاتها التي تتفق في الإطار العام، حيث تعكس السلطة التنفيذية إرادة الشعب ضمن قيود محددة ومتفق عليها حول الانتخابات، وتداول السلطة وسيادة القانون وحرية التجمع والتعبير، والمنافسة الشريفة ضمن دستور معتمد شعبيا يحدد تعريف المواطنة التي لا تميز بين الناس على أساس ديني أو عرقي أو لغوي أو اجتماعي أو جنساني.
أما النوع الثاني من الأنظمة فهو الأنظمة غير الديمقراطية، التي لا تمثل إرادة الجماهير بشكل حر وعادل ونزيه، وتكون السلطة التنفيذية قد وصلت إلى سدة الحكم عن طريق الانقلاب، أو الثورة الشعبية أو الوراثة، أو الاستعانة بقوى خارجية. وهذا النوع من أنظمة الحكم ينقسم إلى قسمين كبيرين، الأنظمة السلطوية وهي الأكثر انتشارا في العالم لغاية أوائل التسعينيات، والأنظمة الشمولية التي سأتحدث عنها لاحقا.
لقد شذت عن هذين النوعين من الأنظمة فئة قليلة من الدول، أطلق عليها صامويل هنتنغتون، اسم الأنظمة السلطانية، وقدّم العالم خوان لنز دراسات مطولة حول ما سماه «السلطانية». وقد حصرهنتنغتون هذا النوع من الأنظمة في مجموعة دول الخليج العربي وسلطنة بروناي، بينما أضاف عليها لنز دولا مثل إيران الشاه ورومانيا تشاوتشسكو والفلبين أيام ماركوس.
النظام السلطاني يقوم على الدولة الصغيرة الريعية، التي تحكمها عائلة ولديها من الفائض المالي ما يرضي غالبية الجماهير، بحيث تحدث مقايضة بين الولاء للنظام القبلي مقابل التمتع برزمة من الامتيازات. وقد استطاعت بعض هذه الدول أن تقيم علاقة مودة حقيقية بين السلطان وغالبية الناس، بحيث تنحصر المطالب في رفع مستوى الامتيازات وليس في تحقيق الديمقراطية والحريات العامة، كحرية بناء الأحزاب والتجمع والتعبير، فمثلا لا أحد يشك في محبة الشعب في دولة الإمارات للشيح المرحوم زايد لما كان يمثله من رمز أبوي حنون شهم، أو التفاف الكويتيين خلف قيادتهم السلطانية، خاصة أيام غزو العراق للكويت، أو حتى عُمان وقطر لسهولة المقايضة بين الولاء والامتيازات، بسبب قلة عدد السكان، فالقطري مثلا يعتبر دخله (127000 دولار) الأعلى في العالم، والامتيازات التي يقدمها النظام لشعبه لا تقارن مع أي بلد في العالم، تليها لوكسمبورغ فمكاو فسلطنة بروناي وهو ما يجعل المطلب الديمقراطي ليس ملحا.
السعودية هي الدولة الشاذة عن كل ما مر من تقسيمات، إذ كانت فيها ملامح من السلطوية والسلطانية والشمولية، لكن أفضل وصف لها هو النظام القبلي الذي ينتمي لعصر ما قبل الدولة الوطنية ذات الحدود المعروفة جغرافيا والمواطنة المحددة المستندة إلى دستور واضح يتعامل مع كل شؤون الحياة.
ويختلف النظام القبلي في السعودية عن الأنظمة السلطانية في دول مجلس التعاون بمجموعة نقاط: فالسعودية بلاد كبيرة جدا ذات مساحات شاسعة؛ والمداخيل السعودية من النفط والغازهائلة، حولت المملكة إلى قوة تأثير كبرى في المنطقة والعالم؛ كما أن عدد الأمراء السعوديين كبير جدا، وبالتالي استطاعوا أن يستولوا على جميع مفاصل الدولة الأساسية؛ والسعودية تحتضن مراكز دينية مهمة للمسلمين في كافة أنحاء الأرض ما أعطاها موقعا متميزا، ودورا كونيا مؤثرا، واعتبرت نفسها ممثلة للإسلام والمسلمين؛ وأخيرا ارتبطت المملكة ارتباطا عضويا محكما مع الدول الإمبريالية الغربية، بريطانيا أولا ثم الولايات المتحدة، منذ أن التقى الرئيس الأمريكي روزفلت الملك السعودي المؤسس عبد العزيز آل سعود في فبراير 1945. فقد وقعت السعودية عام 1951 اتفاقية حماية أمنية، وسمحت بموجبها إبقاء قوة عسكرية أمريكية في البلاد؟
مواصفات النظام القبلي
أقيم النظام القبلي في السعودية كما هو معروف بحد السيف، بحيث تم تطهير كافة جيوب المعارضة لحكم آل سعود المتحالفين مع الوهابية الدينية منذ عام 1744 عندما أقسم المحمدان (بن سعود وبن عبد الوهاب) أن يعملا معا لإقامة دولة مبنية على الشريعة والمبادئ الإسلامية. أعطيت الدولة الجديدة اسم القبيلة التي أنشأتها وقامت فيها العلاقات الداخلية ليس على أساس المواطنة والولاء للدولة، بل الطاعة والانصياع لشيخ القبيلة، الذي يملك كل القرارات الصغيرة منها والكبيرة.
وصيغت العلاقة مع بقية القبائل المكونة للبلاد على أساس الولاء (خاصة عن طريق المصاهرة) مقابل بعض الامتيازات لشيوخ القبائل، بما في ذلك بعض الوزارات الهامشية. الشعب هم رعايا يرتبطون بشيخ القبيلة على أساس تقديم العطايا والمنح والهبات، فهو صاحب البلاد والعباد والمال. كما يتصرف على أساس أبوي، فهو الوالد الذي يتوقع من أولاده الطاعة المطلقة، ويتم تأديب كل من يخرج على الطاعة.
العنف يمارس ضد كل من يعارض هذه التركيبة تحت ذريعة «الفساد في الأرض» ويمارس القتل من دون إجراءات قانونية محكمة، بطريقة موغلة في التخلف وذلك بقطع الرؤوس أمام الناس. ويكون التشدد في تطبيق الشريعة على الفقراء في إقامة الحدود عليهم، خاصة ما يتعلق بالنساء. والدين يستخدم لتكريس قيادة شيخ القبيلة وتأديب من يعترض عليه ويُعلم بطريقة تلقينية تحرم طرح الأسئلة والاستفادة من بعض علوم العصر. كل عضو من أعضاء القبيلة الحاكمة يشعر بالحماية والانتماء للطبقة العليا ويجرى عليه المال العام ويحمى من المساءلة.
في ظل هذا الوضع انتشرت المفاسد وأهدر المال العام، وتحولت البلاد إلى مجتمع استهلاكي غير منتج وانتشرت المظالم وتغول الأمراء في فسادهم ووصلت ثروات بعضهم أرقاما خيالية، واستطاعات الدولة/القبيلة أن تمدد سيطرتها بعد «صدمة النفط عام 1973 خارج الحدود عن طريق المال، فاستحوذت تقريبا على معظم وسائل الإعلام وضخت في الساحة وسائلها الخاصة، واشترت الكتاب والصحافيين والقنوات الفضائية للدول الأخرى، واشترت الولاءات من الدول المجاورة، وأصبحت تلعب دورا أكبر من حجمها ولكن ليس بتركيبة عصرية قائمة على المؤسسات بل بمزاج شخصي للحاكم المطلق أو فئة صغيرة حوله من العائلة نفسها.
التحول إلى الدولة الشمولية
لم تعد الدولة /القبيلة قادرة على التكيف مع متطلبات العصر، وقد تعرضت لأكثر من هزة في السنوات الأخيرة، مثل حركة جهيمان العتيبي عام 1979 ومشاركة 15 سعوديا في تفجيرات 11 سبتمبر 2001 ومظاهرات الربيع العربي في دولتين مجاورتين مثل البحرين واليمن، وانطلاق حركة احتجاج في المنطقة الشرقية.
ما يقوم به الحاكم الفعلي للسعودية الآن محمد بن سلمان هو تفكيك دولة القبيلة التي فشلت في التواكب مع العصر، واستبدالها بالنظام الشمولي القائم على حكم الفرد المطلق. والنظام الشمولي قائم على ثلاثة أعمدة، حاكم مطلق لا حدود لسلطاته يتصرف كما يطيب له من دون أدنى مساءلة، أيديولوجية قد تكون قومية أو دينية أو توجه يجبر الناس على اتباعه، استخدام مطلق للعنف وإطلاق أيدي أجهزة الأمن لاقتلاع أي أثر للمعارضة، حتى ولو كانت سلبية وسلمية وغير مباشرة. ويتفق كل علماء السياسة على أن النظام في كوريا الشمالية من هذا النوع.
إن ما نشاهده في السعودية الآن أقرب إلى انهيار سلطة القبيلة واستبدالها بسلطة الفرد المطلق المتحكم في كل مفاصل الدولة وميزانيتها وأجهزتها القمعية، وكافة منابرها الإعلامية والتحكم في رقاب الناس وحركاتهم وأقوالهم وتدويناتهم وتغريداتهم، وحلهم وترحالهم. طاعة الأمير تفرض فرضا ولا يهمه أن يحبه الناس، بل أن يخشوه.
لا نعرف إذا كان هذا الشاب يعرف الفروق بين أنظمة الدولة الحديثة أم لا؟ لكننا نحذر من عواقب تحويل الدولة القبلية إلى نظام شمولي كاسر، لأن السلطة الشمولية تحمل عناصر دمارها في ذاتها. وانظر من حولك فلا تجد إلا دولة كوريا الشمالية خاضعة لمثل هذا النظام. فالتجربة الإنسانية علمتنا أن الدولة القائمة على رغبات شعبها وتتمثل خياراتهم وتعكس توجهاتهم هي الأبقى.
محاضر بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي
د. عبد الحميد صيام
تحليل ممتاز للوضع السعودي . ياريت لو المحلل يكتب لنا عن تاثير السعودية على محيطها العربي والاسلمي في نشر التخلف والتطرف…
أستاذي العزيز .. تحليل متمكن جدا لكن أضيف نقطه مهمه في أن التحول هذا فرض على هذا الأمير وعلى هذا النظام فوضع المنطقه و كما ذكرت أنت فإن عدم مواكبة النظام السابق وعدم قدرته على التكيف مع متطلبات العصر تطلب تغيير النظام إلى ما يخدم مصالح معينه في المنطقه و حتى حين .. الأمر بنظري مدروس جيدا و لإبقاء المنطقه كسوق إستهلاكيه عظيمه على جميع الاصعده لموازنة الإقتصاد “العالمي” و السياسه العالميه يجب أن لا يتعدى التحول إلى أكثر من نظام شمولي .. تحيتي لفكرك التحليلي المتمكن