مصر.. والتمهيد لعودة العسكريتاريا

حجم الخط
0

لا شيء يوحي ان مصر التي ثارت على نظام حكم مبارك العسكريتاري في الخامس والعشرين من يناير ذاهبة إلى خارطة طريق سياسية تعيد الحياة الديمقراطية إلى البلاد. فالممارسات القمعية التي يضطلع بها النظام الحالي تشير إلى تغول مفاجئ للعسكر في مصر ومن لف لفهم من مؤيديهم في مواجهة احتجاجات الشارع التي لم تتوقف رغم كل المحاولات. فبعد حملات القمع العنيفة التي استهدفت جماعة الإخوان المسلمين في الأسابيع الماضية، يبدو أن مصر تشهد عودة الدولة الأمنية التي كانت قائمة قبل اندلاع الثورة.
في أعقاب الانقلاب العسكري في الثالث من تموز/يوليو الماضي، سعى القادة العسكريون إلى إضفاء طابع مدني على الحكومة الانتقالية التي جرى تعيينها، وتقرَّر إجراء انتخابات تشريعية في شباط/فبراير 2014 بعد شهرَين على تنظيم استفتاء حول الدستور المعدَّل. وأصبح الفريق أول عبد الفتاح السيسي، قائد القوات المسلّحة، نائباً أوّل لرئيس الوزراء في مصر، كما احتفظ بمنصبه السابق وزيراً للدفاع. لكن مع استقالة محمد البرادعي من منصب نائب الرئيس بعد أقلّ من شهر على تسلّمه مهامه، تتداعى الواجهة المدنية للحكومة. فردّاً على الاضطرابات التي تعمّ البلاد، أُعيد العمل بقانون الطوارئ، الأمر الذي أدّى إلى توسيع سلطة الدولة وإضفاء طابع من الشرعية على انتشار الوحدات العسكرية في مواجهة التهديدات الداخلية.
العودة إلى وضعية الطوارئ لم تلقَ مقاومة كبيرة. وفي حين أثار لجوء الدولة إلى العنف بطريقة غير متكافئة غضباً على المستوى الدولي، كان موضع قبول من قبل بعض التيارات في الداخل. وفيما شكّك البعض في صحّة التقارير عن المجازر، حمّل آخرون الإخوان المسلمين علناً مسؤولية العنف. وقد اصطفّت حركة ‘تمرّد’ إلى جانب بعض وسائل الإعلام وأثنت على عزيمة السيسي. وكانت جبهة الإنقاذ الوطني من أشدّ الداعمين للجيش. وكان لافتاً محاولة التقليل من شأن همجية القوى الأمنية، مع العلم بأنهم كانوا هم أنفسهم هدفاً لهذه الأجهزة قبل وقت غير بعيد.
منذ إطاحة محمد مرسي من الرئاسة، أحكم نموذج جديد قبضته على البلاد، بدعم من وسائل الإعلام المملوكة من الدولة والحكومة الانتقالية وحركة 25 يناير. وبُرِّرَت حملة القمع التي استهدفت الإخوان من خلال اللجوء إلى الخطاب القومي المتشدّد الذي يعتبرها شرّاً لابدّ منه من أجل بسط أمن الدولة من جديد. وأدّى هذا النموذج أيضاً إلى ترسيخ مخطّط الجيش عبر إضافة التهديدات غير العسكرية إليه. وساهم في توسيع هامش المناورة المتاح أمام القوى الأمنية على المستوى المحلي، ومنحها شرعية متجدِّدة في عيون المصريين. وتحوّل الدفاع عن الأمن القومي ذريعة مثالية لتوسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية.
تدعيم هذه العملية تم عبر اللجوء إلى مصطلحات لغوية معيّنة تُصوِّر الإخوان المسلمين بأنهم تهديد للأمن القومي. فسعت القوى الأمنية في الشارع إلى إضفاء شرعية على تحرّكاتها عبر السيطرة على الخطاب المحيط بالأحداث. وشنّ المجلس الأعلى للقوات المسلحة ووزارة الداخلية حملة دعائية قوية عن طريق وسائل الإعلام المملوكة من الدولة، واتّهما الإسلاميين بإيواء عملاء أجانب في صفوفهم، ومن ثم بتخزين أسلحة في مواقع الاعتصامات.
مقارنة باستراتيجية التأطير التي انتهجها نظام مبارك حيال المتظاهرين في ميدان التحرير في كانون الثاني/يناير 2011، كان نعت الإخوان المسلمين بالتنظيم الإرهابي خطوة ‘خطيرة’ من جانب السيسي. إذ حاول الإعلام المصري الرسمي التأكيد على تراجع التطلّعات الشعبية من أجل الحكم المدني وأنه حلّ مكانها الدفاع الوطني والمعركة ضد الإرهاب كشعارَين يُستخدمان من أجل حشد الدعم الشعبي. وتبيّن أن نعت الآخرين بالإرهاب يساعد على توسيع هامش التحرّك المتاح أمام الدولة. فالسلطات لم تعد مضطرّة إلى حصر تحرّكها بنشر القوى الأمنية، إذ إنها تتعامل مع مجموعة مصنَّفة في خانة التنظيمات الإرهابية، وبالتالي مع مسألة مرتبطة بالأمن القومي. حتى إن المستشار الرئاسي مصطفى حجازي ذهب أبعد من ذلك في الخطاب الأمني معلناً ‘حرباً شاملة على الإرهاب’، وتلقّف معظم الأفرقاء السياسيين في مصر (بما في ذلك بابا الأقباط وحركة تمرّد) هذه العبارة وتبنّوها عبر تردادها في خطبهم.
محاولات توسيع نطاق التهديد الأمني وتصويره بأنه يشمل، إلى جانب الإخوان المسلمين، الأفرقاء الذين ينتقدون طريقة تعاطي القوى الأمنية مع الأزمة. باتت تعرض الصحافيين والمعارِضين إلى هجوم منهجي ومنظَّم من جانب وسائل الإعلام المملوكة من الدولة التي تنعتهم بالخونة، أو يُهدَّدون بملاحقتهم في دعاوى قضائية. ويعبّر هذا الخطاب القومي المتشدّد عن مفهوم حصري للهويّة المصرية يستثني شريحة أساسية من المجتمع المصري تتمثّل بالإخوان المسلمين ومؤيّديهم.
وبناء عليه، يرى العديد من المحللين ان مخاوف تحول الإسلاميين إلى التطرف في ازدياد في ظل الضغوط الأمنية التي يعرفونها، والعزلة السياسية المفروضة على التعبير عن أفكار أنصارهم رسمياً في وسائل الإعلام المصرية. وبالنسبة إلى جماعة الإخوان المسلمين، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، فقد بدأ قادتهم يقارنون حملة التضييق التي يتعرّضون إليها في الآونة الأخيرة بالقمع الذي عانوا منه في عهد عبد الناصر. ففي سجون الدكتاتورية العسكرية الأولى، طوّر سيد قطب، القيادي في جماعة الإخوان المسلمين، الأساس الأيديولوجي الذي استلهمته بعض الحركات الجهادية المعاصرة، وإن لم يكن صابحه (قطب) يعنيه بالمعنى ذاته. وسوف تستفيد الفصائل الجهادية الإسلامية المتشددة من الظهور في صورة الضحية. كما أن جنوح الإسلاميين نحو التطرّف (إذا ماتم) يصبّ بدوره في مصلحة القيادة العسكرية المصرية إذ يمنحها ذريعة أساسية لتمديد العمل بقانون الطوارئ، من جملة إجراءات أخرى.
الانتقال الديمقراطي في مصر.. كان الضحية الأولى لما جرى بعد حادثة اقتحام اعتصام رابعة الشهير، فالمعسكر العلماني المؤيد للتحركات العسكرية رغم غبائها وقسوتها في معظم الأحيان، أفسح في المجال، عن غير دراية، أمام عودة النزعة السلطوية، وسوف يتضح عما قريب ان محاولات ترويض النمر الذي أفلتوا عقاله مجدداً لن تكون بالسهولة التي يتوقعونها، فالعسكر ينزعون إلى التفرد والتسلط بطبيعتهم، وليس من السهل إقناعهم بالتنازل عن مواقعهم وقتما شاؤوا.

‘ كاتب وباحث فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية