لندن ـ ‘القدس العربي’ قد يسجل التاريخ ان الازمة السورية حول الاسلحة الكيماوية بدأت بحماقة/ زلة لسان وانتهت بحماقة/ زلة لسان. فقد بدأت في آب (اغسطس) العام الماضي عندما سئل الرئيس الامريكي باراك اوباما عن السلاح الكيماوي الذي يمتكله نظام بشار الاسد وامكانية استخدامه فاجاب متسرعا ان هذا ‘سيغير حساباته’ ويعتبر ‘خطا احمر’، مما فاجأ مساعديه في البيت الابيض الذين كانوا يفضلون ممارسة الضغط على الرئيس السوري من وراء الستار. فقد نقلت صحيفة ‘نيويورك تايمز’ في حينه عن مسؤول قوله ان ‘الفكرة كانت تقوم على ممارسة الضغط على الاسد بدون وضع الرئيس اوباما في وضع يجبره على اتخاذ فعل’ عسكري. فقد كانت الادارة تحاول تجنب الوقوع في مصيدة حرب جديدة، وبالوكالة تضعها امام حلفاء النظام السوري، ايران وروسيا واعدائها القاعدة التي ستكون المستفيدة من اي عمل عسكري. اما الحماقة الثانية فقد ارتكبها، بقصد او بدون قصد، وزير الخارجية جون كيري في لندن عندما رد على سؤال لصحافي قائلا ان النظام السوري يمكنه تجنب الضربة لو قام بتسليم اسلحته الكيماوية وفي غضون اسبوع. وهذا تخبط اخر في تعامل البيت الابيض مع الازمة السورية التي مضى عليها عامان ونصف. ومع ان الخارجية حاولت التقليل من اهمية تصريحات كيري باعتبارها بلاغية الطابع وكانت عن امر لم يكن ليتحقق الا ان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف امسك باللحظة وعرض فكرة وضع الاسلحة الكيماوية السورية قيد الرقابة الدولية، تدميرها ومن ثم انضمام سورية لمعاهدة حظر انتشار الاسلحة الكيماوية.
خيط نجاة
ويبدو ان الاقتراح الروسي كان بمثابة خيط نجاة للرئيس اوباما الذي اعترف ليلة الاثنين انه قد يخسر التصويت في الكونغرس، خاصة ان عدد النواب الذين لم يقنعهم اوباما يصل الى 230 من مجموع 433 نائبا، اضافة لعدم اقتناع الرأي العام الامريكي بجدل الرئيس وطاقمه حول اهمية عقاب الاسد، فقد اشار استطلاع الى ان نسبة 20 بالمئة من الامريكيين يعتقدون ان عدم الرد على الهجوم الكيماوي الذي تقول الادارة الامريكية ان النظام السوري ارتكبه في الغوطة الشهر الماضي، سيشجع انظمة اخرى على السلوك نفسه. ويضاف الى هذا ان الرئيس الذي خرج من قمة العشرين التي عقدت الاسبوع الماضي في سانت بطرسبرغ الروسية لم يحظ بدعم دولي ولا من حلفائه غير الدول العربية الداعمة للازمة والتي باركت الخطوة الامريكية في باريس يوم الاحد. وحتى الحليف الفرنسي الذي بدا متشددا وداعما لضرب سورية يبدو الان في حالة تراجع على ما ذكرت مجلة ‘تايم’ الامريكية، فيما ينشغل الحليف البريطاني بفكرة العلاقة ‘خاصة’ مع امريكا ولن يكون قادرا على دعم الضربة نظرا لتصويت البرلمان ضد المشاركة التي دعا اليها رئيس الوزراء ديفيد كاميرون. والاهم من كل هذا اعتراف الرئيس الامريكي في لقائه مع شبكة ‘ان بي سي’ قائلا ‘لم اقرر بعد ماذا سأفعل ان تم التصويت ضدي’، مع انه قال لمحطة ‘سي ان ان’ ان الفكرة التي تقدم بها لافروف ليست جديدة وطرحت في قمة العشرين، في محاولة منه للتأكيد ان سورية لم تكن لترضخ بدون تهديد حقيقي. وكان هاري ريد رئيس الاغلبية الديمقراطية قد اعلن عن تأجيل جولة للتصويت لفحص حظوظ الرئيس في الكونغرس لاعطاء البيت الابيض فرصة اخرى كي يقدم ‘حالة’ الحرب للنواب المترددين مع ان مسؤولين في الادارة قالوا ان النائب انتهز فرصة العرض الروسي.
تشوش
هناك اعتراف من المسؤولين والمعلقين الامريكيين ان التصريحات الصادرة عن البيت الابيض تتسم بالتشوش، وهو ما عقد جهود الرئيس لاقناع الامريكيين بأهمية معاقبة النظام السوري. فقد لاحظت صحيفة ‘واشنطن بوست’ ان الرئيس وطاقمه من المساعدين قدموا خلال الايام العشرة الماضية عددا من التبريرات المختلفة والمتغيرة في الكثير من الاحيان حول الظروف التي قتل فيها اكثر من 1400 مدني في الغوطة في الهجوم الكيماوي التي تتهم الادارة نظام الاسد بتنفيذه. ففي الوقت الذي اكد فيه مسؤولو الادارة على انه لا يمكن السكوت على جرائم النظام الديكتاتوري الا انهم قالوا ان خططهم لمعاقبته لا تشمل على الاطاحة بالاسد. وقالوا ان الضربات قد تؤثر على القدرات القتالية للنظام وقد تحرف الميزان لصالح المعارضة، لكن الهدف الرئيسي منها هو اضعاف قدرته على استخدام الاسلحة الكيماوية. وقد دعت هذه التصريحات المتناقضة احيانا عددا من الجمهوريين للتعبير عن عدم الثقة بخطط اوباما. فبحسب النائب جون ابني كالبيرسون، النائب عن تكساس ‘لا وضوح ولا تركيز’ في التصريحات مضيفا ان ‘موقف الرئيس مترنح وغير واضح، انا نفسي لا اعرف ماذا يريد ان يفعل’. وقد عبر الرئيس نفسه عن المعضلة هذه في لقائه مع ‘بي بي اس’ عندما قال ان ‘اذا تحدثت مع عائلتي او ميشيل (زوجته) تعرف انهم قلقون ومتشككون من اي عمل’ عسكري. واشارت الصحيفة الى تحدي الرأي العام الذي يحتاج الرئيس اوباما لاقناعه، حيث اظهر استطلاع اجرته مع شبكة إي بي سي ونشرت نتائجه يوم الاثنين ان 64 بالمئة من الامريكيين يعارضون ضربة عسكرية لسورية. ويرى كولين كال من جامعة جورج تاون والذي ركز على سياسة الادارة تجاه الشرق الاوسط ان اوباما يواجه تحديا قاسيا للمواءمة بين المصالح المتداخلة فالادارة كما يقول من ناحية ‘لا تريد الغوص في المياه الساخنة، والتورط في الحرب الاهلية، لان هذا يخيف الناس خاصة انهم لا يتمتعون بدعم شعبي’ ومن ناحية اخرى ‘لا تريد الغوص في المياه الباردة، اي توجيه ضربة ليست قوية للاسد لا تؤدي لتدمير قدراته بشكل كاف’.
فرصة لاوباما
ومهما كان الواقع فالمبادرة الروسية تعتبر خيط نجاة حيث علقت صحيفة ‘نيويورك تايمز’ في افتتاحيتها على زلة لسان كيري بالقول انه، اي كيري، لم يكن يتوقع ان يؤدي اقتراحه العرضي وقف العمل العسكري الامريكي ولكنه قد يكون منح مخرجا للرئيس اوباما الذي عبر عن اصرار لتنفيذ العمل العسكري بعد تحميله النظام السوري مسؤولية الهجوم الكيماوي. وترى الصحيفة ان الترحيب الدولي بالمبادرة السورية وتصريحات وليد المعلم، وزير الخارجية السوري تشير الى حرص المجتمع الدولي على تجنب الحرب. ولكنها اضافت ان ادارة اوباما لديها الكثير من الاسباب لتعبر عن تشككها من وعود النظام السوري او داعميه الروس. ومع كل هذا فعلى الرئيس اوباما وكيري ملاحقة هذا الحل الممكن لان تدمير اسلحة الدمار ومخازنها ستكون مصدر أمن للشعب السوري، وسيكون التخلص منها بمثابة رادع طويل الامد اكثر من ضربة عسكرية قد تؤدي الى مقتل الكثير من المدنيين. وعليه يجب على الاسد السماح للمفتشين الدوليين بالدخول للبلد حالا، وسيكون هذا بمثابة بادرة حسن نية عن استعداد البلد الالتزام بالقوانين التي تحظر انتشار السلاح الكيماوي. وعلى الروس كذلك العمل بشكل قريب مع الولايات المتحدة والامم المتحدة لاعداد جدول حول الترسانة الكيماوية السورية والتثبت منها ومكان وجودها، ووضع جدول زمني لتدميرها تحت اشراف دولي. وأكدت الصحيفة على اهمية تقدم كل من الولايات المتحدة وروسيا لمجلس الامن بمشروع قرار يشجب استخدام السلاح الكيماوي في سورية، وتحذير النظام من مغبة تراجعه عن دعم المبادرة الروسية.
استطلاعات
وايا كان الرابح في هذا التطور فاوباما خاسر في الاستطلاعات وكما اشرنا يواجه معركة صعبة لاقناع المواطنين الامريكيين، فقد اظهر استطلاع جديد لصحيفة ‘نيويورك تايمز’ وشبكة ‘سي بي أس’ ان غالبية الامريكيين الذين يشعرون بالتعب بعد عقد او اكثر من الحروب في الخارج يعارضون حربا جديدة في الشرق الاوسط، مع ان غالبيتهم تعتقد ان القوات السورية هي التي نفذت الهجوم الكيماوي في الغوطة الشهر الماضي. وقالت الصحيفة ان نتائج الاستطلاع تلخص طبيعة التحديات التي تواجه الرئيس اوباما لاقناعهم والكونغرس والعالم بشكل عام، حيث وجد نفسه امام تحد اخر وهو المبادرة الروسية كما تقول. وترى الصحيفة ان الاستطلاع يؤكد تحولا ثابتا في مواقف الرأي العام فيما يتعلق بالدور الامريكي في العالم، فالاجهاد الذي اصاب الامريكيين من حربي العراق وافغانستان ادى بهم لعدم الاهتمام بمناطق الحروب قدر اهتمامهم بمشاكلهم الاقتصادية في بلدهم. فبحسب الاستطلاع فان ستة من بين كل عشرة امريكيين يعارضون ضربة عسكرية لسورية، حيث عبرت غالبية المشاركين عن مخاوف من تورط طويل لامريكا في سورية مما سيؤدي الى زيادة التهديدات الارهابية. لكن معارضة التدخل في الشؤون الخارجية تذهب ابعد من الازمة الحالية في سورية حيث تقول نسبة 62 بالمئة من المشاركين في الاستطلاع انه يجب ان لا تأخذ امريكا الدور القيادي لحل ازمات العالم مقابل 34 بالمئة ترى انه يجب على بلادهم قيادة العام. ويتناقض هذا الموقف مع استطلاع اجري في نيسان (ابريل) بعد دخول القوات الامريكية العراق عام 2003 حيث حبذت نسبة 48 بالمئة فكرة الدور القيادي لامريكا مقابل 43 بالمئة عارضته. وفي جوابهم على سؤال ان كان على امريكا التدخل للاطاحة بالديكتاتوريات وتعبيد الطريق امام الديمقراطية اجابت الغالبية 72 بلا مقابل 15 بالمئة قالت ‘نعم’، وتعلق الصحيفة ان هذه النسبة الاعلى التي تسجل في الاستطلاعات التي اجريت خلال العقد الماضي. وتعتقد الصحيفة ان نتائج الاستطلاع تشير الى فشل الرئيس اوباما في اقناع الرأي العام باهمية عمليته العسكرية ‘المحدودة’ في سورية، فبحسب الاستطلاع قالت نسبة 80 بالمئة ان ادارة اوباما فشلت في شرح اهداف العملية العسكرية في سورية، فيما قالت نسبة 69 بالمئة ان اوباما يجب ان لا يبدأ العمل العسكري بدون موافقة من الكونغرس.
حملة ايباك
فقد ارسلت (ايباك) 300 من اعضائها يوم امس الى الكابيتال هيل كجزء من حملة تقوم بها لدعم خطة اوباما لضرب سورية. ويعتبر هذا جزءا من حملة دعت فيها لجنة الضغط المعروفة اعضاءها بالاتصال باعضاء الكونغرس، فيما كشفت الصحافة الاسرائيلية عن طلب اوباما من رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو التدخل شخصيا والاتصال باعضاء الكونغرس لاقناعهم باهمية ضرب سورية. وفي الوقت الذي لم يتم التأكد من صحة التقارير هذه الا ان جهود ايباك والجماعات المؤيدة لاسرائيل تضع الدولة اليهودية في مركز النقاش حيث حاولت الحكومة الاسرائيلية الالتزام بالصمت حيال الخطة الامريكية. ونقلت صحيفة ‘نيويورك تايمز’ عن مسؤول اسرائيلي قوله ان بلاده تواجه ‘ معضلة حيال ما يجب عليها فعله في الكونغرس’ حيث تخشى اسرائيل من لوم الامريكيين لها على توريط بلادهم في حرب جديدة في الشرق الاوسط. وقال المسؤول ‘لا نريد ان نظهر بمظهر من يدفع باتجاه الضربة’ ولكن ‘الرئيس طلب منا المساعدة فمن نكون حتى نرفض الطلب’.
هولاند خاسر ايضا
وبعيدا عن واشنطن يواجه الرئيس اوباما تحديات نابعة من مواقف الحلفاء حيث تقول مجلة ‘تايم’ ان النداء الحار الذي وجهه جون كيري يوم السبت في العاصمة الفرنسية باريس، مستخدما اللغة الفرنسية التي يتقنها بشكل جيد واعتمد فيه على التاريخ المشترك في مواجهة الديكتاتوريات لم يلق اذانا صاغية لدى الفرنسيين، بل كما تقول المجلة ربما ادى لتعقيد مهمة الرئيس فرانسوا هولاند وجهوده لنيل دعم الفرنسيين لفكرة الحرب على سورية. وتضيف انه كلما دفعت الحكومات الغربية بفكرة ضرب البنى العسكرية للاسد كلما زاد تصلب الرأي العام ورفضه لأي تدخل خارجي. فبحسبب انتوني دوركين من المجلس الاوروبي للعلاقات الخارجية في لندن فقد ‘انكشف حجم الدعم الشعبي للعمل العسكري منذ الهجوم الغوطة’، قائلا ان هولاند يعاني من نفس المشكلة التي يعاني منها اوباما فكلما دفع باتجاه العمل العسكري كلما تعقد الحال امام الرأي العام الذي يتساءل عن ماهية العمل وطبيعته وماذا سيحقق من اهداف وما هو ثمنه؟.