بعد الأحداث الكبرى دائما تجد بعض الكتاب يتحدثون في حماس عن أنهم تنبأوا بما جرى في أحد أعمالهم السابقة. ليس الكتاب فقط لكن أيضا النقاد الذين يرون إنه من الإنصاف الإشارة إلى ذلك تأكيدا لعظمة الإبداع والمبدعين. وقد بدأ جيلي حياته الأدبية بعد هزيمة 1967 وكان الرائج ولا يزال ما قاله الشاعر أمل دنقل في قصيدته «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» من نبوءة بالهزيمة.
«لكنني أوصيك إن تشأ شنق الجميع
أن ترحم الشجر
لا تقطع الجذوع كي تنصبها مشانقَ
لا تقطع الجذوع
فربما يأتي الربيع
والعام عام جوع
فلن تشم في الفروع نكهة الثمر
وربما يمر في بلادنا الصيف الخطر
فتقطع الصحراء باحثا عن الظلال»
لو كان القادة العسكريون في مصر ذلك الوقت متفرغين للحياة العسكرية وليس المدنية، ولو كان نظام الحكم ديمقراطيا، كان يمكن للهزيمة أن لا تقع، ولا شك في أن هذا كان سر تحذير أمل دنقل الذي صار نبوءة. لا شك في أن هذا التنبؤ إرث إبداعي قديم نقلته لنا الأساطير اليونانية، وعلى رأسها أسطورة أوديب حين تنبأ تيريزياس ـ كاهن معبد أبوللو ـ بما سيجري لحاكم طيبة من ابنه القادم الذي ألقي به في الغابة مربوط الساقين، ومن هنا جاء اسمه «أوديب» الذي عاد كبيرا ليقتله بالخطأ ويتزوج زوجته التي هي أمه ـ أم أوديب ـ وهو لا يدري وتحل الكوارث بطيبة. وقبل العصر اليوناني فالنبؤات بمن سيأتي يقتل الحاكم كثيرة ـ نبوءة موسى وفرعون مثلا ومثلها الكثير في الأساطير البابلية الأقدم من اليونانية، وحتى عند المسلمين الشيعة، في ما بعد، فهناك نبوءة المهدي المنتظر، الذي سيملأ الدنيا عدلا يوما ما وهي النبوءة التي لم تتحقق لا عند الشيعة ولا السنة! النبؤات إذن تاريخ قديم كتبها شعراء وظلت تمشي في التاريخ، ورغم أن شخصيات الأساطير كلها غير حقيقية إلا أنها انتقلت إلى تراث العقلاء.
ليس عيبا إذن أن يتنبأ الكتَّاب الذين طبعا لا يعرفون إنهم يتنبأون إلا بعد وقوع الحدث. فلم يشر أحد أبدا إلى قصيدة أمل دنقل قبل هزيمة 1967 باعتبارها تحذيرا من نوع ما، فما بالك بكونها نبوءة. هذا الأمر زاد وانفجر تقريبا بعد ثورة يناير/كانون الثاني في مصر عام 2011.
كثير من الكتاب قالوا عن أنفسهم هذه المرة إنهم تنبأوا بالثورة وبنزول ميدان التحرير. وأذكر أنني في أحد الحوارات التلفزيونية وفي «بوستاتي» على الفيسبوك بعد اشتعال الثورة في تونس، ورواج مصطلح «مصر مش تونس» إني قلت إن تونس فتحت باب السجن لمصر، كما فتحت عزيزة السجن ليونس في السيرة الهلالية المعروفة. الأمر إذن فيه شيء من الوجاهة. وسببه مع قليل من التبصر هو أن الكتاب الحقيقيين دائما غير متوافقين روحيا مع ما حولهم، فهم يوجدون من بين شخصياتهم دائما من يتمرد ويتحدث عن ضرورة الثورة على الأحوال، أو أنها ستحدث يوما ما. الشخصيات وهي تقول ذلك في الروايات لا ينتبه الكاتب إليها، لكنه ينتبه بعد أن يقع الحدث، وربما حتى لا ينتبه بعد وقوع الحدث فينبهه الآخرون. وهنا يرتفع صوت بعض الكتاب بالفرح، رغم ما يحدث بعد ذلك من كوارث! لا أحد تنبأ بالمؤامرة على الثورة وعلى الربيع العربي عموما من الأدباء، وربما كتب في ذلك بعض السياسيين الأدباء مثل رواية «باب الخروج» لعز الدين شكري فشير، الذين درسوا تاريخ الثورات ويعرفون مآلها على الأقل أول مرة، حين يبدو أن من قاموا بها ليسوا مدركين تماما أن ثورة دون الوصول إلى السلطة كارثة، أو كما قلت دائما بالعامية المصرية «ملطشة»، وهنا عقل وفهم للواقع والتاريخ أكثر منه نبوءة أيضا، رغم وجاهته. على أي حال أعود إلى التنبؤ وأحكي تجربة شخصية فيه.
عام 1990 حدث الغزو العراقي للكويت وفوجئت بكاتب شاب اسمه سيد عبد الخالق تُوفي للأسف بالمرض مبكرا وكان واعدا جدا في كتابة القصة. فوجئت به يأتي اليّ بروايتي «بيت الياسمين» التي كانت قد صدرت عام 1986، ويشير إلى حوار تقول فيه إحدى الشخصيات للأخرى «حتحصل حرب في الكويت والبترول اللي فيها حيولع» في الرواية شخص لا يتحدث مع الآخرين إلا عن رغبته في السفر والعمل في الكويت. يقول ذلك في كل وقت مما أزعجهم جدا فقال له الآخر في ضيق ما قاله، حتى يكف ذلك الشخص عن الحديث بمناسبة وغير مناسبة عن الكويت.
نوع من الصدق الفني في الحوار بين الأصدقاء أساسه الضيق والزهق لا أكثر ولا أقل. بعد ذلك عام 1992 كنت أنشر روايتي القصيرة «قناديل البحر» مسلسلة في مجلة «نصف الدنيا» الأسبوعية المصرية. لم يكن هناك إنترنت فسلمتهم الرواية بخط يدي، وكنت أذهب كل أسبوع أراجع الفصل الذي سينشر. كانت مجلة «نص الدنيا» في مبنى صغير تطور في ما بعد. وبينما أنا أصعد السلم إلى الدورالثاني وجدت الجميع ينزلون في هرج ويصرخون «زلزال». لم أكن شعرت بالزلزال لكنني نزلت جاريا معهم. في اليوم التالي ذهبت لأراجع البروفة فوجدت فيها مونولوج للبطل يقول فيه: «هذه البلاد التي تُسمَى مصر سوف تتعرض لحركات تكتونية عنيفة تهز الأرض والجبال» والحركات التكتونية هي الزلزال. جلست ساهما لا أصدق. أصابني الرعب الحقيقي حتى أدركت كم كان البطل حزينا على شهداء حرب أكتوبر/تشرين الأول من زملائه الذين ضاعت دماؤهم وانتهت الحرب إلى مكاسب لمن لم يحاربوا من اللصوص والتجار. لكن الأمر استمر معي. فبعد أن كتبت رواية «الإسكندرية في غيمة» عام 2012 ونشرت في يناير/كانون الثاني 2013 في أيام حكم الإخوان نبهني الجميع في كل ندوة كيف قال أحد الاشخاص «عيسى سلماوي» لأصحابه الطلاب في السبعينيات، سنوات أحداث الرواية كيف سيصل الإسلاميون إلى الحكم يوما ما، لكنهم لن يبقوا إلا عاما لأن الشعب سيعرفهم على حقيقتهم، هم تجار دين ولا أكثر يستخدمونه للوصول إلى أغراضهم السياسية. كان عيس سلماوي ماركسيا وذا رؤية للتاريخ، لكن الجميع اعتبروها نبوءة بينما أنا وأنا أكتب كنت أعبر عن فهم عيسى للأمور، وبالمناسبة هو فهم صحيح لا يقتصر على الماركسيين فقط. ورغم فهمي لمعنى الصدق الفني في تصوير مشاعر الرفض للشخوص أو الحوار لما حوله وأن ذلك هو سبب ما نسميه بالتنبؤ، سيظل يحدث من الكتاب وسيظل الكتاب والقراء والنقاد يدركونه متأخرا بعد حدوثه، لكن أرجو أن لا نصل إلى إجابة على سؤال القديس بطرس وهو هارب من روما، إذ رأى المسيح عليه السلام بعد قيامته في الطريق حاملا صليبه فسأله باللاتينية «كوفاديس» إلى أين أنت ذاهب فقال المسيح إلى روما لأصلب مرة أخرى.
٭ روائي مصري
إبراهيم عبد المجيد