ما هي الأفكار التي كانت تراود الرئيس السادات في الطائرة متوجهاً لإسرائيل؟ ما السقف الذي كانت تلامسه طموحاته؟ برصد شخصية السادات وتقلباتها ونزعتها لممارسة الدراما على مسرح الحياة، فمن المحتمل بأنه فكر بنفسه فرعوناً يعيد بني إسرائيل من جديد لبيت الطاعة، بوصفهم كائنات مستضعفة سترحب بعودتها إلى حضن الفرعون، في حركة تصحيحية لإشكال تاريخي ممتد على آلاف من السنين.
بالقطع كان السادات يحمل فكرة أنضج عن الشخصية الإسرائيلية من تلك التي استهلكت في المسلسلات المصرية، مثل «رأفت الهجان»، ولكن بالتأكيد لم تكن فكرة دقيقة، وهو ما كشفته الأيام بعد الزيارة الشهيرة للكنيست وجولات المفاوضات التي أجبرته على الهبوط كثيراً بسقف طموحاته، لتنحصر في أن يكون السلام هو بوابة خروج لحكمه من أزمة اقتصادية مستحكمة، أنتجت غضباً منفلتاً في يناير 1977 جعلت السادات يستشعر بالخطر ومن قدرته على المحافظة على الحكم، وحتى هذه القشة أفلتت في النهاية ليسقط السادات غارقاً في دمه، وتقبع مصر لسنوات تحت سطوة مديونية مرهقة.
تخيل السادات بأنه يلقي طوق النجاة لإسرائيل ويمنحها السلام المنشود، بدون أن يستشعر للحظة واحدة أن اسرائيل غير قادرة أصلاً على الإبحار، فهي تتمسك بموقعها على الشاطئ، تراقب المتخبطين بين حطام سفينة الشرق، والسلام بكل ما يمكن أن يدور حوله من حديث، ليس سوى استراتيجية ابتزاز اسرائيلية لا يستطيع مناحم بيغن ولا غولدا مائير ولا شامير ورابين بعدهم بسنوات التخلي عنها، لأن عقيدة الحرب تستوطن عميقاً في الشخصية الاسرائيلية، فعاموس عوز، الروائي الاسرائيلي الشهير يلخص تصور اسرائيل بوصفها وطناً قومياً انطوائياً ومسلحاً، وفي حالة فقدان هذه الأركان، فإن اسرائيل نفسها ستصبح مهددة بفقدان شخصيتها ودورها، وستتحول إلى مجرد بلد آخر في شرق مضطرب.
اسرائيل لا تفكر في السلام، فهو ليس على أجندتها لأن فكرة السلام تنطوي على تنازلات كثيرة، وإسرائيل بحدودها الحالية تعتبر نفسها في طور التشكل، فالمهمة أبعد من شريط ساحلي فضلته إسرائيل لدى التقسيم على الأراضي الداخلية، في ما يعرف في التراث التوراتي بيهودا والسامرة، ولعلها ما زالت تحلم بأرض توازي في مساحتها أوغندا أو الأرجنتين، وهي ضمن المشاريع التي طرحت على الوكالة الصهيونية، ولكنها لم تكن لتوفر لهم الحالة المثالية من الانطوائية والتسلح، كما في فلسطين، بجانب بالطبع البقاء على مقربة من الأساطير القديمة التي يمكن أن تشكل القومية اليهودية.
رهانات السادات نفسها ما زالت قائمة، فالبعض يعتقد أن أزمة المنطقة ستنتهي بتطبيع إسرائيل داخلها، وكأن اسرائيل هي المسؤولة عن الفساد في الدول العربية، وكأنها هي التي أهدرت الديمقراطية، واعتدت على الحريات، فالمشكلة تكمن إلى حد ما في وجود اسرائيل، التي تلقت دعماً كبيراً من الدول الاستعمارية، لتكون قاعدتها المتقدمة في وسط العالم، ويبقى الجانب الكبير من المشكلة قائماً في الدول العربية ذاتها، التي كانت مجرد مشاريع تحرر غير ناضجة لدى مواجهة الكيان الصهيوني الذي يعبر عن تجربة قرون في أوروبا المعقدة بصراعاتها وقومياتها، والمتقدمة بما لا يقاس في مجال التكنولوجيا والتسلح.
تلقت إسرائيل خلال العقدين الأخيرين العديد من عروض التسوية العربية مختلفة المقاييس والمواصفات، بدون أن تلتفت بجدية لأي منها، ويشبه الأمر صورة من يتجول في السوق ويقوم البائعون بمطاردته بالتنزيلات والخصومات، بينما لا يمتلك هو في المقابل رغبة في الشراء، فما تريد اسرائيل هو انتزاع مجاني لمجموعة من ثروات المنطقة، والأمر تحصل عليه بشكل أو بآخر في افريقيا، فتقوم بدعم قطاعات نوعية مثل الزراعة والصحة مقابل استثمارات خالصة لاسرائيل، لا تقوم على مبدأ المشاركة مع الدول المستضيفة لهذه الاستثمارات، فاسرائيل ليست مستعدة لتقاسم تكنولوجيا الزراعة مع أي دولة عربية، ولكنها لا تمانع لو حصلت على حصة من الأراضي الخصبة، واستثمرتها لمصلحتها بصورة مباشرة، أو مقابل ثمن زهيد ودون الحد الأدنى من المضايقات، التي يمكن أن تقوم على المشاركة وتقاسم الحصص.
السلام مرعب بالنسبة لإسرائيل، كما أنه يتضمن شروطاً أولية تجعله من الأساس أي شيء آخر غير السلام وفق المفهوم الذي يتصوره العرب، فعندما تذهب إلى اسرائيل يجب ألا تتحدث عن حقوق جيرانها في المياه، كما أن الحديث عن المستوطنات يزعج اسرائيل بشدة، ثم أي دولة مستقلة ذات سيادة كاملة يمكن أن تقبلها اسرائيل على حدودها، فذلك يعني موانئ ومطارات يمكن أن تستقبل من تشاء وما تشاء، هذه أمور لا يمكن أن تقبل بها اسرائيل، ولا تضعها أصلاً على طاولة المناقشة، ولو وضعتها في البداية فإنها لا يمكن أن تعبر بها إلى المرحلة النهائية.
سباق السلام المطروح في المنطقة هو مجرد أنشطة ذهنية تشبه أفكار السادات في طائرته للقدس، ولن تفضي في نهايتها إلا لمشاعر الإحباط الكاملة التي اعترت السادات وهو يرى دولته تتفكك من الداخل وتفلت من بين يديه، بدون أن يتمكن من تدارك الأمر، فالسلام مع اسرائيل يتطلب تحولات ثقافية واجتماعية وعقائدية، تضعف في حالة حدوثها مناعة أي دولة عربية، خاصة أن تحشيداً طويلاً استقر فيما يسمى بالوجدان الوطني، كان قائماً على العداء مع اسرائيل، بينما لا يمكن لاسرائيل في المقابل أن تتقبل أي عبث في جهازها المناعي الذي وصف عوز تكوينه المقدس بالقومي والانطوائي والمسلح.
يختلف المجتمع الاسرائيلي اليوم عن جيل مؤسسي الدولة العبرية، وتداخل المجتمع وتعدده وتنوعه، مع وجود ثقافات طاغية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ومجتمعات المدينة والمستوطنة والمهاجرون الجدد والاسرائيليون المرتبطون بمدارات أوروبية أو أمريكية كمواطنين، يعيشون صراع الفرص والتهديدات في مجتمع معولم، وللأسف فمعظم التقديرات العربية للمجتمع الاسرائيلي تقوم على تصورات منتهية الصلاحية، ولم تعد تمثل حقيقة التوجهات الاسرائيلية التي لا تطلب القبول العربي ولا تحتاج إلى عفو الفراعنة أو مغفرة العماليق.
ورطت اسرائيل العرب في صراع يدور حول التاريخ، وقطعت بهم الحبل ليسقطوا في هاوية الماضي، وتفرغت على امتداد زمن الزعماء والأبوات وأمراء الطوائف لتحدق في المستقبل بعيون مفتوحة على اتساعها، بدون أن يضايقها أحد، وفي وسط حمى الغرق بالجملة والتقسيط التي تجتاح المنطقة، فإنها ستتمسك في قلعتها/ مرقبها على الساحل تتابع ما يجري أمامها، بدون أن تكون مضطرة لإلقاء أطواق النجاة لأي أحد، ولو فعلت ذلك، فإن الثمن سيكون كبيراً للغاية، وربما لا يختلف كثيراً عن الغرق.
كاتب أردني
سامح المحاريق