خسران

حجم الخط
2

ذات فجر من شتاء 1963 قررت الشاعرة سيلفيا بلاث أن تنهي حياتها، وهي في ريعان شبابها وأم لطفلين، وقد كانت مأساتها بادئة حين كان زوجها الشاعر تيد هيوز يتقدم في الفضاء الشعري في بريطانيا وأمريكا وهي منشغلة بتربية الطفلين والاهتمام به.
القارئون لشعرها بعد وفاتها تحسروا على اللامبالاة التي عوملت بها رغم جمال نصها ومقاومتها ونضالها من أجل البروز، لهذا مُنِحت جائزة بوليتزر وهي راقدة في قبرها بعد أكثر من عشرين سنة. كان ذلك تكريما متأخرا لها.
هذا ليس تكرارا لما ذكرته في مقال سابق، بل إنه طرح جديد لشعور المرأة بالخسران في مرحلة معينة من عمرها، حتى حين تكون متزوجة وعندها أولاد. فقد اتضح أن تحقيق الذات بالنسبة للمرأة لا يكون عن طريق الزواج وإنجاب الأطفال، هناك عدد ليس بالقليل من النساء اللواتي يرين أن النجاح الذاتي هو ما يحقق لهن الإشباع الحقيقي من الحياة، أما تكوين العائلة وتربية الأولاد فتعد مهمة غرائزية محضة، بإمكان أي أنثى أن تحققها، سواء أحسنت ذلك أو فشلت فيه.
السؤال الذي انفجر في وجهي وأنا أقرأ جزءا صغيرا من أحد نصوصها: «أسير في حلقة مفرغة… في قبر الأخطاء القديمة، العميق والمؤلم… لا يستطيع الحب أن يأتي إلى هنا». سؤال يثير زوبعة من الأسئلة، حول ندمها العميق تجاه قرارات عطّلت عجلة حياتها الإبداعية، فإن كان زواجها هو الذي دمّرها، فكيف كانت ستتفادى اتخاذ قرار الارتباط وهي تحت تأثير حب جارف؟ في محيطي القريب سألت أصدقاء وصديقات، وكانت أجوبتهم متفاوتة، بعضها نابع من عمق التجربة وبعضها الآخر وجهة نظر.
لماذا ينتابنا هذا الشعور بالخسران؟ هل فعلا كما أجابتني صديقتي الكاتبة المرموقة: «لأنها غالبا ما تكون قد مرت بمحاذاة حياتها لتسعد الآخرين، ولأن لا أحد ينتبه لخسارتها». لكنها تضيف: «صدقا لم أشعر بهذا إلا على مستوى الكتابة، لأنني تزوجت في الثالثة والعشرين، وضحيت بالكتابة إلى أن بلغت الأربعين، ضحيت بنصوص كثيرة كان يمكن أن أكتبها، لأنني كنت أصر على تربية أولادي بنفسي، ولم يكن لديّ أحد يساعدني، إلا نادرا، في الشؤون المنزلية، تلك خسارة لا تُعَوّض، لكنني لم أندم، أولادي يردون لي ما أعطيت، إذ ثمة عمر تصعب فيه الوحدة على المرأة».
لا تعرف المرأة أن تجيب على هذا السؤال بدقة، لأنها لوعرفت لأوصلت الفكرة لمن حولها في حينها، لكنّها تمضي بشجاعة في العطاء إلى آخر رمق، وحين يمضي العمر تلتفت خلفها لتدرك ما سرق منها ومن عمرها من أشياء لا تعوّض. ولعلّها لو تصرّفت بالأنانية نفسها التي يتمتع بها الذكور لعالجت الأمر، أو لو أنّها قامت بتفضيل نفسها على محيطها لنجت من الغرق في بحيرة العطاء بدون مقابل، ففي الغالب هذا المحيط العائلي هو السبب الرئيسي في مص قدراتها وإجهادها طوال فترة شبابها وعطاءاتها، ثم بعدها كل يمضي لحياته فتهجم الكآبة من حيث لا تدري على نفسها، بدءا برؤية نجاحات الآخرين، إلى ما حققه من هم في عمر أبنائها، وهي لا تزال واقفة مكانها. وقد نال الجميع ما يريدون منها ولكن لا أحد كافأها على كل ما قدمته بالمجان.
ثمة من يصف محطة هذا الشعور المؤلم بـ»الفجوة» التي يمكن ملؤها باحتضان من الآخر لتحقيق الاستقرار النفسي، وحماية الذات من أي تأثير خارجي، على أساس أن الشعور بالخسران له محرضات خارجية دوما وليست نابعة من ذات النفس المعطاءة. أما الذين ينظرون إلى عدم صدق هذه الفرضية فيعتقدون أن الأمر يختلف باختلاف نظرتنا لما خسرناه أو ما كسبناه، ومدى تقييمنا لما حققناه، فتظل المسألة نسبية، حتى إن البعض الآخر ذهب إلى أن أي تحقيق للذات مانع للشعور بالخسران لأن ذلك يعني أنها حققت ما جاءت إلى هذا العالم من أجله.
هل هذه كانت مشاعر إيميلي دكنسون مثلا حين قاطعت العالم كله وعكفت في غرفتها، من شدة الخسران الذي شعرت به؟ فقد كتبت الشعر حين خسرت عالمها المحيط بها، حين ظلّ يتساقط مثل أوراق الخريف أمامها، وهي في كامل عجزها لفعل شيء، حتى الكتابة لم تشف آلام خساراتها.. حتى الشعر تعثر أمام نكبتها حين خسرت جيلبرت ابن أخيها المفضل، حضورها كشاعرة كان باهتا في حياتها هي الأخرى، وكأن ظروف الشاعرتين ابنتي مساشوستس لم تتغير خلال قرن ونيف… وهذا أمر مشابه تماما لواقعنا الشرقي في عمقه، حتى إن اختلفت مظاهره عند الطرفين.
هذا الواقع الذي شرحه الشاعر الفلسطيني راشد عيسى بدأ من «البيئة العربية التي تجعل الأنثى تشعر بالذعر منذ تهميشها من طرف أهلها، وتركيز اهتمامهم على ابنهم الذكر… السبب الذي يجعلها في سن المراهقة تبحث عن ذكر تمتلكه بالحب للحصول على حماية، لكن بمجرد دخولها قفص الزوجية تكتشف أنه مجرد مؤسسة اجتماعية استهلاكية، والمؤسف أنها حين تحب وتتزوج تضع كل أحلامها في زوجها». ويقول في موضع آخر مقارنا: «إن المرأة ليست سوى جزء من حياة الرجل مهما ادعى حبها» عكس ما تشعر به المرأة حين تتمحور حياتها كلها على زوجها، وهي تقبل أن يرفرف أبناؤها بعيدا عنها لكنّها لا تقبل بالشراكة في زوجها». «لا توجد امرأة مطمئنة كامل الاطمئنان على مستقبل زواجها، فكل خيارات الهجر وسوء المعاملة إلى الطلاق والزواج بثانية بيد زوجها، لهذا تشعر بالخسران والخوف وتتوقع الغدر، كونه سلوكا مباحا اجتماعيا للذكر. المرأة كائن مذعور لهذا يعمل حدسها أكثر من حدس الرجل، إنها منذورة للقلق السراني العميق مهما بدت قوية ومطمئنة وقوية ومكابرة، ولا يخفف عنها إلاّ الابن، لأنه على الأغلب لا يخون أمه، ويرعاها سواء تطلّقت أو ترمّلت أو هرمت».
طبعا كل الآراء صحيحة ما دامت نابعة من تجربة، لكن هل كلها تعكس ضراوة مشاعرنا في لحظات يقظة الضمير، وعتابات النفس، ومحاسبة الذات؟ على سبيل المثال لا الحصر أذكر فرجينيا وولف التي انتحرت بسبب مرضها، لكن أيضا بسبب وعيها وحسها العالي بالذنب تجاه زوجها ليونارد وولف، الذي عاشت معه أياما سعيدة، كما صرّحت الشاعرة والموسيقية باتي سميث في ملف بـ»المغازين ليتيرير» على أن إقدامها على الانتحار نبع من شعورها بأن مرضها سيدمر حياته، وهي ماضية نحو الأسوأ بدون أمل في الشفاء.
انتحار وولف كان رسالة فريدة من نوعها للعالم أجمع على أن الخسران قد نكون نحن سببا فيه لمن نحب، فوجب أن نوقف ذلك. ولعلّنا من عمق عقيدتنا نرفض الانتحار، لكن اتخاذ قرار شجاع وصائب لإنهاء عذابات نسببها لمن نحب واجب أخلاقي عظيم، لا نعترف به لا من قلب عقيدتنا ولا من خارجها. هذا الخسران الذي يأتي في لحظة غير مرتقبة، بعد حرب صامتة مع الزمن.. هذا الخسران بنوعيه، شعور لا يمكن وصفه بدقة ولا تحديده بلماذا وكيف ومتى؟ إنّه زائر جبّار من الممكن أن يفتك بنا، كما من الممكن بقدرة قادر أن يجعلنا نهتدي لطريق أخرى تكون بداية مختلفة لنا.

شاعرة وإعلامية من البحرين

خسران

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    نعم الموضوع يحتمل أكثرمن وجهة نظروموقف وخبر…لكن علينا أولًا أنْ نتفق على معنى الخسران على وزن فعلان ؟ فهومن خسر…ضلّ وهلك ونقص.أنما لماذا كان الخسران على المرأة فقط في المقال ؟ الخسران إذا وقع يكون على المرأة والرجل سواء ؛ وإلا كان غبنًا لا خسرانًا.فهذه هي معادلة الطبيعة : أنّ ميزان الحياة لا يستقيم من دون المرأة والرجل / الأنثى والذكرفي الحقوق والواجبات والنعماء والبأساء.
    وهذه ليست مثاليات بل الحقيقة…مهما قلبوا المفاهيم والقيم والمعايير؛ أما الشذوذ الاجتماعيّ فلسنا بصدده كحالة تنافسية ها هنا.وعليه أقترح أنْ يكون عنوان مقال خسران : نسوان.ونخصص للرجال موضوعًا مستقل العنوان بالنبــرنفسه ( زنان ). وإنْ لا يوجد مثل هذا الاشتقاق اللغويّ العربيّ.لكن ما دام الأمرفيه خسران فليكـن ؟ وتأسيسًا على ذلك أقول : إنّ سببه التنافس اللامتـوازن بين النساء والرجال.وهذا اللاتـوازن أفقده الخصوصية الطبيعية بين الجنسين على حساب المرأة ؛ لتبدو الضحية الأولى والآخرة.وإلا كما قال الشاعر: العباس ابن الأحنف :
    { أما والذي لو شاء لم يخلق النوى…لئن غبتِ عن عيني ؛ لما غبتِ عن قلبي }.
    فهذا هوالانتمـاء الذي يؤدي إلى الاتحـاد والاستقرارالنفسي وغيرالنفسي؛ فيبعد الخسران بالتكامل الحقيقيّ.وإلا سيكون التعلل بالانشغال ؛ مركب الهروب عن الانتماء والاتحاد والتكامل ؛ فيكون الخسران والهلاك والبعاد وشأزالقلق ؛ وللشاعرنفسه قوله اللوذعيّ :
    { تعتل بالشغل عنا ما تكلّمنا…الشغل للقلب ؛ ليس الشغل للبدنِ }.وإلا سيبقى منتحرًا الجنس البشريّ أوالذي وقع عليه الحيف والخسران المبيرمنه : { كالحوت لا يرويه شيء يلّقمه…يصبح ظمآن وفي البحرفمه }.أما عكس الخسران وهوالنجحان مع التضحية فحقيقته بالارتواء العذب لا العذاب والسبب : { وأشرب الماء ما بي نحوه عطش…إلا لأنّ عيونه ؛ سيل واديها }.مع تحياتي.

  2. يقول ليلى : جدة:

    انها من اجمل المقالات للغالية المحبوبة بروين..وتعليق الدكتور جمال عليها بالف تعليق وتعليق ، كالف ليلة وليلة لهارون الرشيد.

إشترك في قائمتنا البريدية