كم عمر الكذب؟

وفقاً للمثل الشعبي الدارج والشهير فإن الكذب لا سيقان له ولا أرجل، وإذا أردت الفذلكة والتظاهر بالثقافة فـ»حبل الكذب قصيرٌ» على ما يزعم المثل العربي، المعروف بدوره أيضاً، لكن للأسف يبدو أن الأمر مختلفٌ تماماً حين يتعلق بالدول والأنظمة، إذ حينها تطول الحبال وتتضافر جدائل وتتعقد، تتشابك بالواقع وتنتحل سمته وصوته ولغته وحرارة صدقه، خاصةً حين تدعمها منظومةٌ إعلامية كبيرة شديدة الصخب.
وليت شبكة الأكاذيب الملتفة تلك تقف عند ذلك، إذ تزداد تعقيداً حين يريد الناس تصديق الكذبة هروباً من واقعٍ شديد القبح لا طاقة لهم على تحمله أو التعامل معه.
كذلك حالنا وحال النظام مع أزمة الإرهاب، ومجمل الأزمات والاستعصاءات العالقة والمتضخمة بفعل الزمن، والفشل في مواجهتها والترهل والنهب.
فوق الثلاثمئة استشهدوا في حادثٍ إرهابيٍ بشع في سيناء، منذ ما يقارب الأسبوع، قتلوا غدراً وغيلةً في بيتٍ من بيوت الله، في ما يعده متابعون وخبراء تصعيداً لا نوعياً فحسب، وإنما كمياً أيضاً.
أجل، لقد عرفنا الإرهاب، ولكن تلك نقلةٌ خطيرة وتأتي بالجديد من حيث نوعية المستهدفين، وطريقة ترصدهم والإجهاز عليهم والمكان والعدد، وقد ذهب بعض المحللين إلى كون تلك رسالة، أو محاولة من الإرهابيين إثبات حضورهم ومقدرتهم على الضرب والإيلام، على الرغم من الهزائم التي مُني بها تنظيم «الدولة» في كلٍ من سوريا والعراق، وما فرضه ذلك عليه من تقهقرٍ ونزولٍ تحت الأرض.
يجوز. لكنني أتحفظ على تلك النتائج، كون خريطة الإرهاب وفصائله يلفها كثيرٌ من الضباب، لا يزيد منه سوى ثقة الخبراء ويقينهم بهوية كل التنظيمات وانسياقهم إلى استنتاجات وتنبؤات بناءً عليها.
أما الإيلام، فسواءً أكان هو الهدف أم لا، فقد تحقق بكل المعاني، على الصعيدين الشعبي والحكومي. لا شك في أن ضربةً موجعةً كتلك تحرج النظام بشدة، وتظهره على غير ما يحب، عاجزاً فاشلاً، وهي الصورة التي حاول محاربتها بكل ما أوتي من قوةٍ «غاشمة» على رأي السيسي.
إزاء تلك التطورات فلا بد من وقفةٍ للتقييم وتقرير المواقف وإثبات التقديرات، وطرح التصورات والرؤى، ومن ثم طرح أسئلةٍ مشروعةٍ وملحة عن ظاهرةٍ لم يعد في الإمكان تجاهلها، كما بات من السخف تصور قرب نهايتها.
أجل، هناك إرهاب وهناك عنف، هناك أفكارٌ ظلامية وتنظيماتٌ ظلامية تستبيح الدم وتستسيغه، ستهدر المزيد من الأرواح وستلغ في المزيد من الدماء. هناك مؤامرات إقليمية ودولية لإعادة تقاسم النفوذ ورسم الخرائط، وهناك الكيان الصهيوني الذي يحاول الاستفادة من كل ذلك لاعباً على كل الحبال وبكل الأوراق، لتثبيت وجوده وتأمين مكاسبه الغاصبة، واستكمال مشروعه، التطهير العرقي العنصري بإخلاء من تبقى من السكان العرب، السكان الأصليين، وكل من يرفض الاندماج ويهدد ذلك النقاء المفترض المزعوم.
كل ذلك حقيقي وموجود، لا يماري فيه إلا جاحدٌ أو مكابرٌ أو من لا يستطيع تخطي كراهيته وانحيازاته السياسية، لكن الوقوف عند ذلك ناقص، بل جرمٌ حقيقي، إذ لا بد أيضاً من الاعتراف بإرهاب الأنظمة، العربية تحديداً، وإجرامها في حق شعوبها، فقد دمرت من أوطانها وقتلت من مواطنيها وأجلت منهم عن أراضيه ما لا يحصيه إلا الله؛ لا بد من الاعتراف واستحضار أن تلك الأنظمة المجرمة المستبدة بعينها، ومن دون استثناء تقريباً، لم تكتف بالإرهاب المباشر تجاه مواطنيها، ومنعهم من أبسط حقوقهم السياسية، ملقيةً بالآلاف منهم في غياهب سجونٍ أضحت مفارخ للإرهاب، بل لقد اصطنع كلٌ منها ودعم فصيلاً متأسلماً إرهابياً أو أكثر، لضرب تيارات اليسار والتحرر الوطني التقدمية في بلدانها، في ما لم يعد سراً، وما زالت تلك الأنظمة تفضل مغازلة التيارات الإسلامية واللعب معها على الدخول في حوار مع تياراتٍ تحررية أو علمانية؛ كما يتعين في ذلك السياق تذكر تلك الأنظمة (ومعايرتها في حقيقة الأمر) بأنها إذ يجأر كل منها بالشكوى من المؤامرات الكونية فقد تآمر على جاره العربي، مع أمريكا والصهاينة في أحيانٍ كثيرة.
أجل الواقع معقد ومتشابك، بيد أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الأنظمة. أجل لقد ضرب الإرهاب فجاءت ضربته بشعة ومفجعة، لكن السؤال: ما الذي لدى النظام ليدحر به الإرهاب؟
منذ اللحظة الأولى انتظرت «ضربةً مدمرة وغاشمة» لمنفذي الحادث الأثيم، ضربةً لن تتأخر عن أربع ٍ وعشرين ساعة على الأكثر، وليس لذلك لفراسةٍ أو فطنةٍ مني وإنما لأن النظام عودنا على ذلك. في كل مرةٍ يضرب الإرهابيون، تتم تصفية «تكفيريين» مباشرةً ليلح علينا جميعاً ذلك السؤال الأبدي: لما كان النظام وأجهزة استخباره بتلك الحصافة والنباهة وتوفر المعلومات، فلماذا لا يحبطون تلك الفواجع قبل أن تحدث؟ وحده الله يعلم من يقتلون، خاصةً والأعداد لا حصر لها وليس من رقيبٍ مُسائل.
يوماً ما وعدنا العسكر بأننا سنستلم سيناء «متوضئة» بعد شهر، هذا الكلام، بعد قرابة أربعة أعوام، إن لم يثر الضحك والسخرية فإنه يبعث في النفس من مكامنها غضباً وسخطاً عميقين.
في كل مرةٍ يخرج علينا الضباط و»المحللون الاستراتيجيون»، تلك الفصيلة المدعية والضارة جداً ، بتأكيداتٍ عن قرب دحر الإرهاب الذي يترنح فهو لا يقدم على تلك الجرائم إلا لينفي احتضاره وهزيمته الوشيكة للغاية.
وفي كل مرةٍ يثبت كذبهم وكذب الحكومة والمسؤولين؛ ليس ذلك فحسب، بل تزيد عليه العنتريات والعنجهية والصلف الصادر عن ذاتٍ مهانةٍ. هم لن يعترفوا بانعدام الجهوزية والكفاءة، بأنهم غير مدربين على هذا النوع من الحروب، والأنكى أنهم على غير استعدادٍ للتغيير أو التعلم.
بيد أنه ليس في ذلك من جديد، فتلك سمة النظام وسنته، فقد اعتاد على ترقيع مواطن خلله وسد فجوات قصوره بتلالٍ وأبنيةٍ من الأكاذيب، معتمداً على بطاريات إعلامه عالية النعيق. هو يحترف الكذب، يستسهله، وسيكذب ما استطاع إلى تمرير كذبه من سبيل، إلى أن يصبح من المستحيل إخفاء الحقيقة، كما حدث في 1967، التي كذب بصددها أيضاً فسماها نكسة لكي لا يعترف بالهزيمة العسكرية الساحقة.
وما زال الكثيرون يصدقون مدفوعين بالحس الوطني، وخوفاً من المجهول والمستقبل وانعدام الأمان، والنظام يعرف ذلك ويغذيه. ينفخ الكذبة بالمشاريع الوهمية ذات الطابع الفرقعي الدعائي كالطرق والجسور، بالإضافة إلى المكاسب السلبية كـ»عدم الفوضى» و»عدم التفكك»، ويؤجل كوارثه بالكذب، ولعل أنصع مثالٍ على ذلك ملف سد النهضة.
سيستمر النظام في الكذب لسببٍ بسيط: ليس لديه سواه، فهو مفلسٌ في كل ما عدا ذلك، ولن يقرب من لديهم رؤية مختلفة وتصور عن كيفية محاربة الإرهاب، فهو يعلم أن ذلك يستدعي بالضرورة الانفتاح السياسي والمشاركة السياسية بتحرير المجال العام والمناقشات النظرية الخ، وهي كلها أمورٌ تضرب في أساس وجوده المحتكر للسلطة.
الأسهل له أن يكذب ويكذب. لكن السؤال مع تعاظم التحديات التي ما تني تفضح عجزه وكذبه: كم عمر الكذب؟
كاتب مصري

كم عمر الكذب؟

د. يحيى مصطفى كامل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة حميد-المغرب:

    ” بل لقد اصطنع كلٌ منها ودعم فصيلاً متأسلماً إرهابياً أو أكثر، لضرب تيارات اليسار والتحرر الوطني التقدمية في بلدانها، في ما لم يعد سراً، وما زالت تلك الأنظمة تفضل مغازلة التيارات الإسلامية واللعب معها على الدخول في حوار مع تياراتٍ تحررية أو علمانية؛ كما يتعين في ذلك السياق تذكر تلك الأنظمة (ومعايرتها في حقيقة الأمر) بأنها إذ يجأر كل منها بالشكوى من المؤامرات الكونية فقد تآمر على جاره العربي، مع أمريكا والصهاينة في أحيانٍ كثيرة.”
    هذا اﻷمر كان في السبعينيات والثمانينيات أما الآن فالحاصل هو العكس تماما: بل لقد اصطنع كلٌ منها ودعم فصيلاً علمانيا استئصاليا أو أكثر، لضرب تيارات الصحوة اﻹسلامية والتحرر الوطني التقدمية في بلدانها، في ما لم يعد سراً، وما زالت تلك الأنظمة تفضل مغازلة التيارات العلمانية واللعب معها على الدخول في حوار مع تياراتٍ تحررية أو إسلامية ” من تآمر مع العسكر ﻹسقاط أول رئيس ديمقراطي غير التيار العلماني فقط بسبب كرههم للإسلام؟ من حرض على الانقلاب العسكري وصفق له؟ من رقص وغنى “تسلم اﻷيادي” (شلت أياديهم) على أشلاء شهداء مذبحة رابعة؟ من يقبع بعشرات الآلاف في سجون الانقلاب ومعتقلاته السرية؟ من يتعرضون للتصفية الجسدية كل عشية وضحاها؟ من صنع الإرهاب الذي كان “محتملا” فأصبح واقعا مرا؟ من”فوض” قائد الانقلاب لقتال “اﻷشرار” أي ” الشعب الآخر”؟…

إشترك في قائمتنا البريدية