أبعد دور للأمومة في أدبنا العربي هو احتضان العائلة، وأحيانا إنجاب الأطفال وإطعامهم ورعايتهم إلى عمر معين، فالأدب انعكاس لواقع معاش، وفي العالم العربي يطير أطفالنا باكرا من أحضان أمهاتهم، إلى الأزقة والشوارع، حينها يصبح الخارج هو الحضن الأمومي الجديد، هو المدرسة، وهو الجامعة، وهو متاهة الأقدار بكل ما تحمله من أرقام خاسرة وأخرى رابحة.
صورة الأم في أدبنا العربي تأرجحت بين «أمينة» بكل ضعفها وعظمة صبرها في ثلاثية نجيب محفوظ، و«أم» محمد شكري في «الخبز الحافي» التي لا حول لها ولا قوة حتى لإبراز مشاعر الأمومة ومنحها لأطفالها، إلى «أم سعد» في أدب غسان كنفاني التي أفردت لها دراسات جامعية كثيرة، من بينها دراسة معمقة لأدهم الشرقاوي صدرت في كتاب.
كتب هؤلاء الرجال عن أمهاتهم بشكل ما، وأمهات عايشوهن في بيئاتهم المختلفة، وإن كان حضورهن ليس بحجم «أم» ماكسيم غوركي في سلم الأدب العالمي، إلاّ أن كل نتاج عربي له مكانته، وعلى سبيل المثال مكانة أم سعد لكنفاني تظل الأقوى بين «أمهات» أدبنا العربي، ليس انحيازا له، بل لأم سعد نفسها التي عاشت كل تلك الهزات العنيفة، التي عاشها شعب بأكمله، وناضلت بدون هوادة من أجل البقاء، وهي إن رأينا أو لم نر حقيقتها جيدا، فإن التقصير يظل منا ويحسب علينا إلى أبد الآبدين.
بكى الأدب العربي وجع الأمهات، وأبرز كل ما اجتهدن لإخفائه من عذاباتهن، وأخرج من تحت الأغطية السميكة، التي رماها المجتمع الذكوري فوق كواهلهن كل تضحياتهن العظيمة، ويبدو لي أننا لم نعرف أن نقرأ جيدا كل ذلك المنتوج الضخم عن الأمهات، حتى حين نردد مطلع قصيدة محمود درويش «أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي،» فإننا نرددها من باب الحنين لأمهاتنا، ومن باب مشاعرنا الأنانية تجاه أمهاتنا، وما أخذناه منهن بدون كثير عطاء، لا أعتقد أن الأمر تجاوز هذه المعطيات الشخصية جدا، رغم أن نص درويش تحوّل إلى «تعويذة عالمية» يرددها المشتاقون والملتاعون.
الأم بحجم فلسطين في شعر درويش وأدب كنفاني، وبحجم فلسفة غاية في الضخامة، تناولت وضعا إنسانيا من منظور أيديولوجي سيكولوجي عميق في رواية غوركي الذي بات إلى يومنا هذا مرجعا مهما لسبر أغوار شخصية الأم، والتحولات الكبرى التي يمكن أن تحدثها حسب حجم وعيها في بناء علاقات معينة بين الرفاق، وتوجيه النضال العمالي السوسيولوجي نحو غايته.
لا مكانة للأم في الأدب بدون تأويلات أكبر منها، إنّها تصب دوما في إطار عميق الأبعاد، وهذا ليس هروبا من فتح باب أوجاعها الحقيقية، فقد أبدع محفوظ في ثلاثيته بتصوير الأغلبية الساحقة من أمهاتنا العربيات كما هن بدون مبالغة، إنهن مسحوقات من طرف أزواجهن إلى أن يكبر أولادهن الذكور، فيؤسسن لقاعدة مختلفة لحضورهن على خريطة المجتمع، حتى أن أغلب هذه الغالبية تتحول من الأم المسحوقة إلى الحماة السّاحقة، بدون مرور ثابت على وسطية معتدلة، وبدون مبررات مقنعة، لأن ما يحدث ردود فعل تحت ضغوط المجتمع الذي يدفع بتلك الأم الطيبة إلى الوقوع في أمراض ومتاعب نفسية تجعلها تعيش بقية حياتها خارج طبيعتها الفطرية التي استُغِلَّت طويلا ضدها.
أما عن هذه التغيرات من القطب إلى القطب، فهي وليدة فكر البلادة الذي نرفل فيه على مدى قرون، مستسلمين للسائد بدون التفات جاد لواقعنا، وواقع أوطاننا المرتبط حتما بوضع الأمهات خاصة والنساء بشكل عام. فكل أمٍّ نموذج لأمَّة، وكل أمة انعكاسٌ لأمهات أبنائها، غير بعيد أبدا عن المفهوم الذي وضعه شاعر العقل العراقي جميل صدقي الزهاوي في قوله:» ليس يرقى الأبناء في أمة، ما لم تكن قد ترقَّت الأمهات» ولا أدري هل ما نرى عليه أممنا يحتاج لشرح حتى نفهم هذا المعطى الفكري البسيط؟ أو هل يمكننا على الأقل أن نتوقف عند مقولة نجيب محفوظ نفسه: «في بداية أي علاقة تظهر المشاعر، وفي نهايتها تظهر الأخلاق» ونبحث عن معنى لها من صلب واقعنا التعيس، سواء بتفكيكها أو بإسقاطها على الواقع المعاش، حيث تنتهي أدوار الأمهات باكرا في حيوات أبنائها، مع أنها تبقى مستمرة في أعماقهم الدفينة بتفاوت، لكن الغالب في الأمر أن هذا الاستمرار لا يغير شيئا من النكران الجماعي المتفق عليه تجاه المرأة.
وصِفَ حضن الأم من طرف شعراء وكتاب كبار بلغة في قمة الرهافة، وغريب أن هذه النصوص لا تعمم على طلبة العلم من خلال برامجهم التعليمية اليوم، عكس ما كنا عليه في زمن مضى، حين كنا أطفالا ننشد يوميا قصائد على نسق رائعة سعيد عقل «أمي يا ملاكي» التي غنتها فيروز، أو «أحن إلى خبز أمي» التي غناها مارسيل خليفة. كل تلك المفردات البهية الشجية بقيت محفورة في ذواتنا، وهي التي شكّلت وعينا الأول تجاه أمهاتنا، وهي التي قادت مشاعرنا إلى العرفان الدائم بدورها، وهي التي نمّت فينا محبة القصة والشعر كونها أدوات تعبير عمّا يختلج في صدورنا، ومن هذا المنطلق العاطفي المرتبط ارتباطا وثيقا باللغة الإبداعية أٌنتِجَت النصوص المكافِئَة للأمهات، التي بشكل عفوي غرست فينا مبادئ احترام المرأة وبناء مجتمع طبيعي لا يدمر نفسه بنفسه بسحق قائمة من قائمتيه.
ولهذا السبب الإدراكي بالذات يمكن لقارئين تفصل بينهما قارات وفضاءات وثقافات أن يلتقيا ويتفقا تماما حدّ الذوبان عند قراءة وصف مبهر لمارسيل بروست ورد في روايته «البحث عن الزمن المفقود» حين قال: «في اللحظة التي كان يجب أن أنام فيها في غرفتي بغياب أمي وجدتي، ستصبح الغرفة النقطة الثابتة والمؤلمة لمخاوفي».
وسنفهم مسار حياة بروست مع والدته التي تعلق بها كثيرا، والتي كانت ملهمته لكتابة تلك الرائعة التي احتضنت إلى الأبد السارد مع والدته، وسنفهم أيضا مضاميننا الإنسانية المشتركة التي رغم معرفتنا البديهية لها إلاّ أننا نتوه عنها في دهاليز الأيديولوجيات المختلفة، ووحده الأدب يجعلها ذات محتوى قيمي مهم يناقض تماما أي صراع وارد بيننا كأفراد عاجزين عن التأقلم مع إنسانيتهم، وأكثر من ذلك فإن هذا النوع من الأدب «الأمومي» إن صحّ التعبير يتجاوز في لبِّه أي دواء سحري يمكننا أن نتعاطاه لنشفى من وحشيتنا المتفجرة بين الحين والآخر لأسباب طارئة.
لم أصادف «أمهات شريرات» في الأدب العربي، عكس أنواع من الأمهات البشعات، السيئات، والمضحكات والغائبات وغيرهن كما في الأدب الأجنبي، فغير وارد لدينا أن تكون الأم شريرة، لهذا أحببت دوما نصوصنا حول هذا الشأن، ولم أحب أبدا تلك التي تهزأ من شخصية الأم، أو تقدمها بصورة تنفر منها نفسي، وأعتقد أن السر في أمهاتنا حين يبقيننا أطفالا رغم مضي العمر بنا إلى ضفاف أخرى.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
لم تذكري يادكتورة الدافع الذاتيّ من وراء كتابة موضوع عن الأم في هذا المتحوّل القوميّ الضارب على الأمة اليوم بسرادق أسود من العقوق : السياسي والاجتماعي والنفسي؟ لا أخفيك وبشجاعة صادقة أقولها : حينما قرأت مقالك هذا بكيت على والدتي…رغم أنني أصلي لله من أجلها في جوف كلّ ليلة بركعتين…وأدعوه سبحانه أنْ ينيرقبرها ؛ لأنها كانت تخشى الظلمة في الحياة الدنيا.وعزائي بها رحمها الله أنها كانت مديرة مدرسة لأربعين سنة ؛ خرّجت بتمييزأجيالًا من الطالبات.وقد أكرمني الله عوضها ببنت ( نسخة طبق الأصل ) من والدتي بالشكل والطباع والمزاج.نعم هناك رابط عضوي حقيقي بين عقوق الأم وعقوق الأمة ؛ هذه ليست مماحكة بل واقعة ؛ وما أدراك ما الواقعة ؟ وهذا الشأن ليس بجديد ؛ ففي معلقته الرائعة ربط الشاعرالعظيم عمروابن كلثوم التغلبيّ بين الكرامة وأمه ؛ حينما أرادت أم الملك عمروابن هند إهانة أم الشاعرفردّعليه الشاعربعنف أحمر؛ دلالة مقام الأم لديهم بل جعل من قضية إهانة أمه ؛ بمستوى مواجهة الأعداء في الحرب :
تهددنا وتوعــــدنا رويــــدًا……. متى كنّا لأمـــــك مقتوينـــا ؟
فإنّ قناتنا ياعمروأعيت…….على الأعداء قبلك أنْ تلينا
وبعده كان أبو فراس الحمدانيّ الشاعروالأميروالفارس ؛ وهوفي الأسرالمنتمي للأم :
لولا العجوز بمنج…….ما خفــــت أسبـــــــاب المنيّـة
ولكان لي عما سألت…….من الفدا ؛ نفس أبيـة
لكن أردت مرادها…….ولــــو انجذبت إلى الدنية
دعائي من الله لحضرتك أنْ يحفظ أمك ؛ وأنْ يحفظك لأمك.وأنْ يحفظ أمهات القــراء بالأمن العميم ؛ ونسأل الرحمن أنْ يحفظ الأمة العربية والإسلامية من مقبـلات الأيام وشرورها الثقال على الآباء والأمهات.
فالأدب انعكاس لواقع معيش
كل اسبوع اقطف وردة من بستان القدس العربي هي مقالة للحبيبة الكاتبة الرائعة بروين حبيب.رغم تعدد مهام الكاتبة لكنها تعطي الموضوع حقه
وتشد اليها كبار القراء ، فهي نبع عذب حفظك الله ياغالية..فلا تحرمينا من فاكهة البستان.
*بدون شك كانت (الأم ) في العقود
الماضية هي دينامو الأسرة
وتقضي جل يومها في رعاية الأبناء
الله يرحمها ويرحم تلك الأيام الرائعة.
حاليا للأسف تغير الحال نتيجة عوامل
عديدة أهمها الظروف الاقتصادية والمالية
الصعبة وأصبحت الأم تخرج للعمل
صباحا وترجع البيت مساءا
وكله على حساب رعاية الأبناء ..؟؟؟
بعض العائلات اصبحوا يعتمدون
على (الخادمة) في رعاية الابناء..؟؟؟
انقلبت الأحوال وزادت الفجوة بين
الأم والأبناء مع إنشغال (الأب) في تجارته
أو وظيفته.
اصبحنا نسمع قصص وأحداث عن
تفكك الأسرة يشيب لها الولدان
مثل الشاب الذي قطع رأس أمه في عمان
أو الشاب الذي اغتصب أمه في دبي..
حسبنا الله ونعم الوكيل والله المستعان.
سلام
طرح جميل وعميق حول ثيمة الأم في الأدب . لا شك أن الأم كما ذكرت د . الأديبة والإعلامية بروين تمثل رمزا يتخطى مدلول الأم لينثال إلى مستويات من التأويل . ولكن بشكل عام فيما يتعلق بالأم العربية تحديدا أشعر أنها وبفعل واقعها المعقد الذي تعيش بحاجة إلى إعادة تأهيل وخاصة في مجتمعات الحروب والنزاعات حيث أتابع احيانا مع نماذج من نسوة وأشعر بالقلق حيال ماوتعرضن له ولابد من الإشارة أن ذلك انعكس سلبا على تربية أطفالهن حيث أبرز. تلك الانعكاسات السلبية تعثر الأطفال في المسيرة الدراسية وترك الدراسة في احيان أخرى وآلام بوصفها نصف المجتمع إذا كانت في حالة من العافية المعرفية والفكرية فضلا عن كونها أما حنونة بالتأكيد سوف نتوقع مجتمعا سويا متوازنا فإذا صلح وضع الأمهات فسوف ينصلح وضع الأسرة والمجتمع بشكل عام . وتحية إلى اديبتنا الإعلامية د. بروين على هذه الإضاءة
اهم ما في الكاتب قدرته على الربط الداخلي بين عبارات الموضوع الواحد.وهذه الميزة وجدتها في مقالات الاخت بروين وفي تعليقات الدكتور
جمال.ان الكاتب حينما يباشر الكتابة وينسى نفسه يخرج باتجاه اخرمغاير فيقتل روح المقال.والشكر هنا للمحرر الثقافي الذي يدرك هذا الترابط الداخلي باحترافية عالية فيما يختاره للنشر..اعجابي بكم.
الاخوة و الاخوات في المغرب، من منكم يتذكر هذا النشيد الوطني
الدي حفظناه في المدرسة آنذاك … في كان يا ما كان …
.
أحـب أمــي التي * * * تتعب في تربيتي
وتسهر اللـيـالـي * * * معنية بحالي
فإن يصبني الداء * * * فعطفها شفاء
.
انا احب امي طبعا، لكن يذكرني هذا النشبد بقصة “أوأو و العفريت”،
ربما لان امي كانت تنادي على عفريت كلما قمت بعمل رائع و جليل
في الخراب بكثير من الذكاء و الخيال.
سيعجبك يا بروين كتاب صغير صدر هذا العام الإيمان مرسال عن الأمومة وأشباهها، وكذلك قصيدة جميلة ومختلفة للميعة عباس عمارة عن أمها، ربما تجدينها في النت.
(سلامٌ لأُمي)
وأمي امتحان الجمال العفيف ليبقى على الأرض
روحاً نقيه
أًعاتبُ نفسي كثيرُ العتاب وأُشهدُ ان كنتُ بنتاً شقيه
اسرُ إذا ما مرضتُ وأسعى لأمرض
كي تتعذب أُمي ولو من عذابي
وحين كبرت
وأعرفها تكره الهوى صار حديث الهوى
متعتي في شبابي أكلمُ أولاد حارتنا
ولو عن كتابي ليبلغ ذلك أُمي
لتقسو عليّ
وأسخر من ما يسمى وفاء بقدر معاناة أُمي الوفيه
فامي القيود..ورجعية العصر. .والقهر..والقمع ..والقبليه ..
وها صرت أماً لأُمي وأمي امتدادُ الشرائع فيه
وامي التي حملتني شهوراً
واحملها كل عمري استحالة ضميري
إذا مانويت تغلُ يديه
فاستغفر الله من سوء نيه
سلام لأمي ..
التي علمتني بقسوتها كيف أمشي على الشوك
أو أتمددُ! فوق المساميرِ
قادرةً ..
لاضحية!)
كم من الأولاد البنين والبنات لديك ياسيدة بروين ؟