صور مخزّنة

انتبهت وأنا مسترخ في عطلة قصيرة، أتصفح في خيالي عددا من نصوصي التي كتبتها عبر سنوات طويلة، إلى أن كثيرا من الشخصيات الواردة في تلك النصوص، تبدو مرسومة سلفا في ذهني، وتأتي بمواصفات لم أخترعها حقيقة، لكن خزنتها الذاكرة، واحتفظت بها لتأتي هكذا.
لا أقصد شخصيات بأسمائها، ولكن شخصيات بمهنها التي كانت تمتهنها، مثل شخصية الطباخ، أو صاحب المقهى، أو الخياط، وشخصيات بانتمائها الديني والفكري والقبائلي،، مثل شخصية القبطي، أو شخصيات من قبائل موجودة في شرق السودان، وهكذا يشمل المخزون حتى أوصاف المرأة الجميلة، والمرأة متوسطة العمر، والجدة، والرجال المهمين، والذين ليسوا أكثر من عبء على المجتمع.
ولما كانت الكتابة في جزء من تكوينها، اندياحا لا محدودا لما تحمله ذاكرة الكاتب، تأتي مثل تلك الرسوم، لتشكل الشخصيات التي ستكتب، ولا يعني هذا أن كل شخصيات النصوص المختلفة، تتشابه في أدائها، إنما في بعض أوصافها ومهنها، وكيفية حياتها وسلوكها داخل المجتمع، الكاتب هنا لا يكتب سيرا ذاتية، ولكنه يستفيد من مخزون ذاكرته، باستعادة أوصاف لشخصيات عرفها في حياته، وتبدو مستعدة دائما أن تهب خواصها، لتخوض في نصوص جديدة، وهكذا.
لقد عملت فترة في الريف البعيد، في شرق السودان، وكانت فترة شاقة من ناحية الحياة المهنية، التي تبدو اعتمادا كاملا على النفس، بدون استشارة أحد، وحتى في قرارات كبيرة وخطيرة، وتترتب عليها حياة الناس أو ضياعهم، مثل أن تقرر شق بطن شخص تعرض للطعن بسكين، لاستكشاف الخلل الذي أحدثته السكين داخله، وترتيقه بأي طريقة، مثل أن تقرر بتر ساق مصابة بالغرغرينا، من جراء جرح ملتهب مهمل أو مضاعفات مرض يصيب الأوعية الطرفية، ومثل أن تقرر إن كانت الولادة التي تنتظرها لامرأة حامل، ستأتي طبيعية أو بعملية، يفتح فيها الرحم لاستخراج الجنين.
لكن في المقابل، كانت ثمة هبات خصبة من ناحية الشخصيات، والسحر والغموض والأساطير، والأشياء التي تبدو واقعية حين تراها أو تشارك فيها، ولا تبدو واقعية أبدا، حين تفكر فيها، في ما بعد.
كان الممرض سمبابة، وهو من قبيلة محلية، يملك عيادة مسائية في بيته، يؤجرها للطبيب الذي يأتي البلدة حديثا، ويعمل معه في إدارتها. عيادة فقيرة فيها طاولة وكرسي، وسرير للفحص، وفوانيس كبيرة للإضاءة في بلدة بلا كهرباء، على الرغم من زعم أهلها، أنها المدينة الثانية في البلاد، التي دخلتها الكهرباء، قبل أن يتدهور حالها، وتموت كبلدة مهمة. كان الممرض قد طرح عليّ تكاليف العيادة، وكانت كلها إجبارية عليّ دفعها مثل أجر المكان، وأجر الأثاث، وأجره كممرض، في ما عدا فقرة واحدة اختيارية، وهي الحماية، التي سيتكفل بها لو دفعت، ولن يهمه لو تعرضت للقتل بسكين أو خنجر أو سيف، إن لم أدفع، كان جادا بالفعل، وحكى لي بعض الناس أن طبيبا كان هنا مرة، رفض أن يدفع أجر الحماية، وتعرض للضرب بواسطة مرضى غاضبين، والممرض يشاهد ما يحدث. واضطررت بالتأكيد للدفع، وشاهدته يفتش الناس قبل الدخول على الطبيب، وينتزع كل سلاح يحملونه، وتجده في لحظة بينك وبين أي شخص، يرتفع صوته قليلا، ليقوم بجرجرته إلى الخارج، وإلغاء حجزه. حقيقة هذا ليس شخصية نمطية لتستعاد في شخصيات أخرى، ولا هو الممرض المخزّن في الذاكرة، ليرتدي صورته ممرض سيأتي في نص، لكن تذكرته، بتذكري للبلدة التي تهب الشخوص الذين يمكن أن يتشكل منهم نص مغاير.
في تلك البلدة، كان موسى، مسؤولا عن الأمن، رجلا صارما وصامتا، ومتوفرا في كل ركن تقريبا، كأنه نسخ كثيرة، تتمشى في البلدة، وليس شخصا واحدا. كان في سوق الخضار، وأماكن بيع اللحوم، والمجلس البلدي، والمدارس، والمستشفى، داخل العنابر وحولها، وقد بقي في ذهني، وتخرج صورته تلك وكل أشيائه وتوابعه، إلى الورق، بمجرد أن أكتب شخصية رجل أمن، متعجرف، وسريع، وقد كان هكذا في رواية «العطر الفرنسي»، ورواية «366»، و«صائد اليرقات»، وأظنه سيستمر هكذا في أعمال أخرى، قد تكتب يوما.
شخصية الداية، أو القابلة، التي بوجه موشوم بالخطوط الرأسية، أو الشلوخ، وثياب بيضاء، وثرثرة كثيرة عن ولادات وهمية قامت بحضورها وإنجاحها بعد أن تعقدت، ولدرجة أن أطباء التوليد يتعلمون منها، هي بالضبط شخصية ملكة التي كنت أشاهدها صغيرا في بيتنا، إنها الأوصاف التي لم تنفلت مني وظهرت في عدد من النصوص.
منذ الصغر، وحين كنا نسكن في وسط المدينة، في بورتسودان، كنا نجاور أقباطا، إنهم أشخاص وطنيون عاديون، لا يختلفون كثيرا عنا، بحكم انصهارهم في المجتمع، فقط تبقى ثمة تقاليد بسيطة، خاصة في الأعراس والعزاءات، تختلف عنا بسبب اختلاف العقيدة، إنه التعايش المطلوب في وطن يسع الجميع، مهما اختلفت انتماءاتهم وعقائدهم، والذي لم يعد موجودا الآن، في كثير من البلاد العربية مع الأسف. شخصية القبطي إذن تشكلت منذ عهد الطفولة وبقيت ثابتة في نصوصي، أتعرض لها حين أتحدث عن الجيرة، والمهن التجارية، والورش الميكانيكية، بحكم أن من عاصرتهم كانوا يمتهنون تلك المهن، وفي رواية «366»، كتبت عن فتاة قبطية جميلة، كانت تشد النظرات في الشوارع، وقصائد الهيام التي يدلقها الشعراء المتوفرون في الجوار، وأيضا طلبات الزواج التي كانت تنهال عليها، ولا تلتفت لها، وكنت أعني واحدة بتلك المواصفات الثرية، عرفتها في ذلك الزمن البعيد، وبقيت هكذا، جمرة في نار النصوص الروائية.
حتى المجانين الذين يمكن أن يردوا إلى الذهن أثناء كتابة رواية، هم مجانين حقيقيون كانوا موجودين في زمن ما، كانت لبعضهم مواصفات الجنون المحترم الذي يجعلهم مجرد هائمين في الشوارع، بلا أذى، وللبعض الآخر، مواصفات الجنون العنيف الذي يستدعى، إيقافهم ووضعهم في مصحات من أجل حماية الناس، وأظنني استلفت كلا النوعين في نصوص كتبتها، واستدعى الأمر أن تكون داخلها شخصيات مختلة.
ولو تأملت المدينة الساحلية التي تجري فيها أحداث عدد من الأعمال، لعثرت أيضا على مدينة واحدة، كانت مأوى للحكايات، وفي كل مرة تأتي بحكاية، لكن تظل الشوارع هي الشوارع، البيوت هي البيوت، وأماكن التسلية، وأيضا التلف، هي ذاتها في كل مرة.

٭ كاتب سوداني

صور مخزّنة

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية