سورية: النموذج البوسني ودروسه

حجم الخط
0

بعد مرور عامين ونصف العام تقريباً على اندلاع الثورة في سورية، وتخوف الغرب والعالم من تحول سورية إلى بؤرة صراع ونزاع دولي مستدام، أو قضية عويصة وعصية على الحل، كما هو حال العراق وأفغانستان، ومن قبلهما فلسطين، فإن الاعتقاد بوجود أي تشابه بين الملف السوري وغيره من الملفات فيه من التجني وعدم الموضوعية الشيء الكثير.
لا وجه شبه بين سورية من جهة، والعراق وأفغانستان من جهة أخرى، لكن أوجه الشبه كثيرة بين سورية والبوسنة، حيث القوة العسكرية الخارجية باتت ضرورية لفرض واقع يدفع الأطراف إلى التفاوض حول تسوية سياسية ما.
ملامح الأزمة السورية في صيف 2013، تشبه إلى حد بعيد حرب البوسنة حتى صيف 1995. ومع ذلك، يصر غالبية المراقبين على النظر إلى الحرب المستعرة في سورية بمنظار التدخلات الخارجية في أفغانستان والعراق، التي كانت ناجمة عن غطرسة غربية من دون أن تحقق النتائج المنشودة.
التركة الثقيلة في أفغانستان والعراق تتمثل في كونهما الدرسين اللذين يجب أن يتعظ بهما دعاة التدخل. حتى أن وزير الدفاع الامريكي السابق روبرت غيتس ذهب إلى التشكيك في القوى العقلية لكل من يفكر في ارسال قوات امريكية إلى المنطقة.
الوضع في سورية وتطور أزمتها يذكران من نواحٍ عدة بالبوسنة وليس بالعراق أو أفغانستان. وما تزال البوسنة تقدم دروسا صالحة. والمسؤولون وصانعو السياسة يدركون أن السياسة التي ينتهجها الغرب والمجتمع الدولي حاليا إزاء النزاع السوري سياسة قاصرة وعاجزة تماما. فالمناشدات والعقوبات واجراءات الحظر وبعض أشكال الدعم للمعارضة والمبادرات الدبلوماسية ومحاولات التوسط التي قامت بها قوى خارجية باءت بالفشل في سورية، مثلما فشلت في البوسنة قبل العام 1995.
أوجه الشبه بين النموذجين البوسني والسوري كثيرة، وفي مقدمتها العجز عن جمع الفرقاء إلى طاولة المفاوضات لتحقيق حل دبلوماسي. وكما في حالة سلوبودان ميلوسيفيتش في التسعينيات، لا يجد الأسد نفسه مضطرا في الوقت الحاضر للتفاوض بجدية.
وفي البوسنة ايضا أُعدت مشاريع وخطط سلام، مثل خطة فانس أون في المراحل الأولى، لكنها لم تتمخض عن شيء بسبب غياب الارادة السياسية لدى الغرب لتنفيذها. ولم تكن اتفاقية دايتون التي أنهت حرب البوسنة في العام 1995 ممكنة في نهاية المطاف، إلا بعد نشوء حقائق جديدة فرضت على ميلوسيفيتش وصرب البوسنة أن يكتشفوا فجأة أن في مصلحتهم التوصل إلى حل عن طريق المفاوضات. فالنتيجة التي تكللت باتفاقية دايتون على علاتها، وتمهيد الطريق أمام البوسنة إلى مستقبل بلا حرب، لم تكن ممكنة إلا بعد التهديد بالقوة واستخدامها المحدود. وهذه هي القضية الحاسمة في سورية اليوم.
في حالة البوسنة واليوم في سورية الأفضلية العسكرية من حيث نوعية السلاح هو للنظام. ففي البلقان، استنكر البوسنيون الحظر المفروض على تسليحهم، فاستغلته بلغراد وصرب البوسنة ابشع استغلال. وعلى الغرار نفسه، تحاول المعارضة السورية الآن مواجهة التفوق العسكري لقوات الأسد الذي تسلحه موسكو وطهران ويسانده حزب الله بقوات كبيرة.
في البوسنة لم يكن الحل ممكنا إلا على اساس تفاهم بين الولايات المتحدة وروسيا، ورغم تضارب مواقف الدولتين ومصالحهما في البلقان، تعين عليهما إيجاد ارضية مشتركة لتعبيد الطريق إلى دايتون. ومن هنا تأتي أهمية المبادرة الامريكية الروسية لعقد مؤتمر جنيف-2 بعد تعديل ميزان القوى على الأرض.
في البوسنة، كما في سورية اليوم، تم تقييم الوضع الميداني على اساس أن الامتناع عن التحرك أقل كلفة من التدخل. ولم تتغيّر هذه الحسابات في البوسنة إلا بعد مجزرة سربرنيتسا ومقتـــل زهاء 8000 مسلم عام 1995. ولعل التدخل في سورية لم يعد مبررا أو مجديا أو ممكنا بوسائل معقولة في هذه المرحلة، وأتت مجزرة كيماوي الغوطة الشرقية ومقتل زهاء 1300 شخص معظمهم من الأطفال والنساء العزل لتضيف عاملاً جديداً للتشابه يبن الحالتين.
النقاش الدائر حالياً حول ما إذا كان التدخل المحدود بفرض منطقة حظر جوي أو ضربات محدودة، كما في البوسنة في العام 1995، من شأنه أن يسهم في ايجاد حل في سورية عن طريق المفاوضات، هو واحد من أصعب القضايا التي تواجه السياسة الدولية في الوقت الحاضر على المستوى الأمني. غير أن المؤكد أن عدم التحرك قرار لا يعفي اصحابه من المسؤولية عمّا سيحدث لاحقًا من تداعيات كارثية قد تترتب عليه.
فالحرب بالوكالة، وما فيها من مكونات قوة دينية وسياسية تتعدى حدود سورية، يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة على مستقبل جميع الدول المجاورة ذات التعقيد الإثني والمذهبي والديني الكبير، وعلى حل النزاع الغربي مع ايران بسبب برنامجها النووي، والصراع على النفوذ وزعامة الشرق الأوسط. ويبدو أن الغرب ينظر إلى سورية كما نظر إلى البوسنة قبل 20 عاما، على أنها مشكلة أو كرة من اللهب يجب الابتعاد عنها.
وإذا كان هذا هو الدرس الأخير الذي سيخرج به العالم من الأزمة السورية، فإنه سيكون خطوة إلى الوراء في قدرة المجتمع الدولي على تأمين السلام من خلال الأمم المتحدة. ولكنه سيعني أكثر بالنسبة للغرب. فهو سيكون اعلان افلاس أخلاقي وسياسي على السواء.
إفلاس الغرب أخـــلاقياً وســــياسياً مرشح لمعاودة الكرة مرة أخرى بسبب تلكؤ دوله او تقاعسها عن حماية المدنيين في سورية، وهو تلكؤ أو تقاعس يمـــكن تفســيره بمحاولة استغلال الأزمة في سورية إلى أبعــــد الحدود، لا سيما مع استمرار تدفق اللاجئـــين السوريين إلى دول العالم والجوار، واعتراف الأمم المتحدة أن نوعية اللجوء السوري حالياً من أفضل الموجات التي شـــهدتها الامم المتحدة عبر تاريخها الحديث والمعاصر، وهو ما جعل دول الاتحاد الأوروبي تتـــــهافت على قبول اللاجئين السوريين وفق معايير عرقية وعنصرية ودينية تعبر عن حجم الطمع الذي تتمتع به هذه الدول.. او الجشع الديمغرافي.. إن جاز لنا التعبير!

‘ كاتب وباحث فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية