ساد في الثقافة الشفاهية القول المأثور: «تحدّثْ تُعرف»، بالنسبة إلى المتكلم. وبخصوص المستمع يقال: «إذا كان المتكلم أحمق فعلى السامع أن يكون عاقلا». وتتعدد الأقوال البلاغية في الثقافة الكتابية حول الكاتب والقارئ معا. ومع تطور النظريات في الحقبة البنيوية، ظهرت نظريات تحليل الخطاب، وتحليل الحديث، أو الحوار، ونظريات التلقي، وكلها اهتمت بصورة أو بأخرى بالعمل الأدبي، قبل أن تتطور لتلامس خطابات أخرى غير أدبية، مع تطور الوسائط الجماهيرية. وفي كل هذه الحالات كان الهدف من الدراسات المختلفة التعرف على أوضاع المتكلم والمخاطب، أو الكاتب والقارئ، والعلاقات التي تربط بينهما في سياقات متعددة. كما أن سعي تلك الدراسات، وهي تحاول دراسة الظواهر تجريبيا، الوقوف على طبيعة الخطاب أو اللغة ومقاصدها ووظائفها، بهدف الفهم والتفسير والتقويم، والارتقاء إلى مستوى أعلى بالتواصل بين الناس خدمة للمصلحة العامة.
حصل مع الثورة الرقمية تطور على مستوى فعل التواصل والتفاعل، وقد صار للمتلقي موقع مختلف عما كان عليه مع الوسائط السابقة. وصار التفاعل عنوان هذه الوسائط، التي يشترك فيها المرسل والمتلقي أيا كان الخطاب الذي يجمع بينهما، أو العلامة التي يستعملانها في التواصل. فبات من الضروري تطوير الدراسات القديمة، سواء كانت لغوية، أو بلاغية أو اختصاصات جديدة تتلاءم مع هذه التطورات مثل: التحليل النقدي للخطاب، والبلاغة النقدية، وبلاغة الجمهور، ورجع الكلام، كما ظهرت تنويعات وتطويرات للنظرية الحوارية التي أقامها ميخائيل باختين.
إن ما يجمع بين مختلف هذه الاختصاصات الجديدة المتعددة والمتداخلة، هو اهتمامها بالبحث في التطورات الناجمة عن عملية التواصل والتخاطب، في الألفية الجديدة، وما صاحبها من تغيرات كبرى، تظهر في الطابع العام الذي بات يحدد أطرافها، ويعطي لكل منها خصوصيته ووظيفته. كما أنها، وإن انصرفت عن التركيز على المرسل إلى المتلقي، خاصة في النظريات الحوارية أو المتصلة برجع الكلام، وبلاغة الجمهور، عكس ما كانت عليه الأمور قبل الرقامة، فإن اهتمامها الأساس ظل مركزا على المرسل باعتباره ظل بؤرة عملية التواصل.
إن البعد التفاعلي الذي تحقق مع الوسائط التفاعلية لم يقض نهائيا على العلاقة التراتبية بين أطراف العملية التواصلية: أعلى ـ أسفل، مرسل أساسي، رجع الإرسال، فظل خطاب السلطة، أيا كان نوعها قائما، من سلطة الحاكم إلى سلطة المؤسسة مرورا بسلطة الأب والعادات والتقاليد، ويبدو هذا جليا في انشغالات مختلف تلك الاختصاصات الجديدة. ولم يؤد استمرار هذه العلاقة إلا إلى التركيز على المرسل، كونه يحتل موقعا أعلى، بينما كان الاهتمام بالمتلقي في مستويات سفلى. ورغم التسليم بكونه قد تحول إلى مرسل في نطاق التفاعلية، فإنه ظل غير مثير للاهتمام البحثي، على غرار ما تشكل مع المرسل الأول، الذي ظل يحتل المرتبة العليا في السلم الخطابي التفاعلي.
إذا كانت ضرورة ميلاد الاختصاصات وتداخلها تفرضها صيرورة جديدة من الظواهر والعلاقات، فإن ما يمكن أن نسميه «نقد قراءة الخطاب» لا يمكنه إلا أن يسهم إلى جانب الاختصاصات التي أومأنا إليها، خاصة «رجع الكلام» و«بلاغة الجمهور»، في الاشتغال على الدور الذي يسم العلاقة بين المتفاعلين خطابيا في الوسائط الاجتماعية، عن طريق تتبع عملية حصول التفاعل وأسبابه، وضبط صوره وأشكاله، والوقوف على عوائقه.
لا شك في أن الهدف من الاهتمام بنقد قراءة الخطاب يصب في المنحى العام، الذي كان وراء كل الدراسات اللغوية والبلاغية القديمة، وكل الاختصاصات الجديدة من المرحلة البنيوية إلى ما بعدها. ولعل من المقاصد الكبرى، إلى جانب الفهم والتفسير، الارتقاء بالمستوى التواصلي بين الناس، في ضوء التفاعل الذي باتت تفرضه الوسائط الجديدة. فلا أحد ينكر الآن سواء من لدن المختصين أو الجمهور العام المنخرط في الفضاء الشبكي، ما آل إليه الوضع التواصلي من فوضى وتسيب، بسبب كون المتفاعلين في هذا الفضاء ليسوا على درجة واحدة من الوعي بفائدة التواصل والتفاعل. كما أنهم لا يمتلكون القيم نفسها، ولا فهم قواعد إنتاج خطاب لاحق على خطاب سابق. ولعل من بين مرامي ممارسة التحليل النقدي لقراء ة الخطاب فهم مستوى المتفاعلين، وتفسير رجع خطاباتهم، أو ردود أفعالهم الخطابية على الخطاب الذي يتفاعلون معه.
لقد تحدث ابن المقفع في تصدير «كليلة ودمنة» عن طبقات القراء في تعاملهم مع نص محدد مثل كليلة ودمنة، وبين أن كل طبقة تتعامل معه حسب مستواها العمري والثقافي والمهني، لكنه في الوقت نفسه ميز بينها فأبرز أهمية القراءة التي لا تقف على الظواهر، ولكنها تعمل على الوصول إلى البواطن لأن الكاتب، وهو هنا يقصد «فلاسفة الهند» كانوا يستعملون حيلا (تقنيات) لا يمكن أن يدركها قراء الظاهر.
من مقاصد نقد قراءة الخطاب الارتقاء بالقراءة التي يقوم بها المتفاعل مع أي خطاب إلى مستوى فهم الخطاب أولا، وإنتاج خطاب يكون في مستواه ثانيا، وإلا فلا معنى للحديث عن التفاعل. وحين يغيب التفاعل الحقيقي، وهو مكسب وليد الرقامة، فلا سيادة إلا للبلبلة.
٭ كاتب مغربي
سعيد يقطين