ما من شاعر يتنكر لبواكيره، لكنه قد يشفق عليها وعلى ما يغطيها من زغب لا يقوى على الطيران، اللهم الا في حالات نادرة قد يكون فيها التنكر لأسباب فكرية او سياسية، بحيث يخجل الشاعر من تحولاته او تقلباته وهي ليست المرادف او المعادل الموضوعي لتطوره الفنّي.
محمود درويش لم ينكر بواكيره بقدر ما اشفق عليها، لهذا كان يرفض الاستجابة لمن يطالبونه في العواصم العربية بقراءة قصائد مثل سجّل انا عربي، لأن لا قيمة لهذه الصّرخة الا امام محتل يستبيح الهوية، وكان يقول سأبدو مثيرا للسخرية لو قلت سجّل انا عربي في دمشق او بغداد او القاهرة او اية عاصمة عربية، حتى في قصيدته الاخيرة مديح الظل العالي والتي كتبت اثناء اجتياح لبنان عام 1982 احسّ بأن التوازن بين الشعري وغير الشعري فيها قد اختل، لهذا سارع الى تصنيفها كقصيدة تسجيلية، بكل ما يعنيه هذا المصطلح من غلبة التاريخي على الفني لصالح التوثيق، وحذف محمود مقاطع ومفردات من مديح الظل العالي منها ما قاله لأمريكا عن الموسيقى.
اما التجربة التي اعنيها اكثر من سواها في هذا السياق فهي ما نشره من نصوص في مجلة اليوم السابع الصادرة في باريس بين عامي 1986 و1987 ضمن مشروع بادرت به المجلة ولم يتكرر وهو الرسائل المتبادلة بين درويش والقاسم، والمساجلة الفكرية بين الجابري وحنفي.
لم يقل درويش ان تلك النصوص شعر بالمعنى الذي يفهمه ويمارسه ايضا، لهذا لم تضمها مجموعاته الشعرية، وهي إذ تبدو اقرب الى الكاريكاتور الشعري ليست نبتا شيطانيا في تجربة درويش، فالصورة الكاريكاتورية موجودة وبتفاوت في اعماله الشعرية لأن السخرية في بعدها الخلاّق ودورها كفعل وقائي في المقاومة صاحبت تجربة محمود نصّا وقولا وفي مطارحاته مع الاصدقاء، ساعده على ذلك رشاقة الذهن واصطياد المفارقات، ففي احد نصوصه بعد عام 1982 قدم حوارا ممسرحا بين نماذج من الفلسطينيين الذين يلتقون في ترانزيت المطارات، منها قول امرأة ان قريتها هي بٌقجتها والبقجة هي الصرة التي كان يحصل عليها اللاجئون من وكالة الغوث، وتضم على الأغلب ثيابا مستعملة وبعض الحاجيات التي تلزم في الشتاء لمن يقيمون في خيام في مهب العراء.
يقول المقاول اين اوظف مالي فيجيبه الموظف مالي ومالك … لكن النصوص المنشورة تحت عنوان خطب الديكتاتور الموزونةَ في اليوم السابع هي كاريكاتورات بامتياز، أخذت من الشعر أوزانه وايقاعاته وبعض مفارقاته، ثم سعت في مناكب السياسة وما يفرزه الطغيان من مناخات مُحتَقنة.
انها سبعة خطب يعقبها خطاب ثامن هو بمثابة تقطير لما ورد في الخطب السابقة بعنوان يوحي بذلك هو خطاب الخطاب !
* ** * * * *
في خطاب الديكتاتور نتذكّر على الفور ما كتبه جورج لوكاتش عن السخرية كمقاومة وسبيل للاتقاء، وليس الكاريكاتور السياسي خارج هذا المعنى، لأنه يهدف الى تسفيه الطاغية وكسر هيبته المصنوعة بمهارة اعلام غوبلزي او جدانوفي، النموذجان الأشهر في هذا السياق في المانيا النازية والعهد الستاليني .
الكاريكاتور الشعري يصل ذروته في هذا المقطع :
{ سأختار شعبا من الأذكياء الودودين والناجحين، سأختاركم وفق دستور قلبي، فمن كان منكم بلا علّة فهو حارس كلبي ومن كان منكم طبيبا أعيّنه سائسا لحصاني الجديد، ومن كان منكم بلا ذهب او مواهب فلينصرف}.
والمفارقة الدرويشية تندفع الى اقصاها في هذا المقطع حيث يصبح الفاعل مفعولا به، ويلعب الديكتاتور كرة الديموقراطية مع نفسه فقط، فهو الناخب والمنتخب والراعي والرعيّة، وهو دون كيشوت وتابعه سانشوا الذي يروي اخباره الكاذبة في وقت واحد!
وفي خطاب النساء، يحشد محمود ما استطاع من الموروث الذكوري للسخرية من شيطنة المرأة بدءا من صندوق باندورا الآغريقي الى هذا الوقت.
تكون النساء عليكم حرام
وابعث غلمان قصري وهم عاجزون الى كل بيت
ليأتوني بكل فتاة وبنت
لأحرث من شئت منهن
بعد الظهيرة بنت
وفي الليل بنت
وفي الفجر بنت
وأذكر انني سألت محمود درويش ذات مساء شحيح الرطوبة وغزيز الضجرعمّا اذا مرّت عليه حكاية ذلك القائد الذي انتصر في احدى المعارك وطلب من الشيخ الذي يرافق العسكر توزيع السبايا بالعدل، فقال الشيخ ان هذه الصبية السبية وهي الأجمل لسيدي وتلك التي بجوارها لنائبه والثالثة لرئيس حرسه، عندئذ لكم القائد الشيخ على فمه حتى سال منه الدم وقال له أعد القسمة بالعدل، فأعادها قائلا: هذه لسيدي في الظهيرة، وتلك لسيدي ايضا في الليل والثالثة لسيدي في الفجر، فأجابني محمود انه لم يقرأ هذه الحكاية وشعر بسعادة غامرة لأنه ابتكرها واجترحها من طغاة عصره لا من طغاة زمن ولى !
* * * * * ** * *
اعود الى الخطاب الثامن في هذه المتتالية الكاريكاتورية وهو ما سماه محمود خطاب الخطاب، ففيه يختل الكاريكاتور لصالح الشعر، وكأن فائض غنائية الشاعر يتمدد قبيل النهاية، رغم ان خطاب النظام يقول :
حطابي شد المسافات بين الكلام وبين معاني الكلام
اذا جفّ ماء البحيرات فلتعصروا لفظة من خطاب السحاب
وان مات عشب الحقول كلوا مقطعا من خطاب الطعام .
في الخطاب الثامن تسطو شعرية محمود على رغبته في التنكر، او استعارة لسان آخر، وهو المهجوس والمهووس معا بجماليات النثر، فقد سمعته مرة يقول حين اكتب نثرا أشعر بأنني اعدو حافي القدمين وبلا ربطة عنق او قيود، لكن الشعر ليس كذلك.
* * * * * * *
ما غاب عنه ان ما كتبه لمجرد السخرية الوقائية من الديكتاتور وأبي زيد الذي تتلخص فحولته في ازدراء المرأة ثم عفّ عن نشره في اعماله الشعرية قد يكون الذخيرة كلها لمن هم أقل موهبة ومعرفة واحساسا بمسؤولية الابداع وحمولته الجمالية والاخلاقية وحتى السياسية، ولم يٌخْفِ محمود ذات يوم شغفه بالرواية التي حاول الاقتراب منها في ذاكرة للنسيان لكنه استعاض عن كتابتها وفق شروطها وهويتها بالسرد الذي وظّفه شعرا بمهارة فائقة، فقد اتسعت نصوصه للقادمين من الصناعات الخفيفة وما يحتاجه السد العالي من كهرباء حين رثى عبد الناصر قائلا له بخلاف شعراء تلك المرحلة :
لست نبيا ولكن ظلّك أخضر .