تحصل الطفل المعجزة جاريد كوشنر – صهر الرئيس ترامب – على هدية خرافية القيمة قبيل موسم الكريسماس، اقتطف الرئيس لصهره المدينة السماوية، بعد أن تقدم الفتى المدلل بالضمانات الكافية من سعيه جيئة وذهاباً في المنطقة، بأن ردود الفعل العربية ستكون عند أدنى مستوياتها، وفي ظل حكم العائلة البرتقالية لا يعود من المستغرب أن يغامر ترامب بالمصالح الأمريكية في المدى الطويل، من أجل استرضاء زوج الابنة المدللة.
من المستبعد أن تتخذ الدول ثقيلة الوزن في العالم الخطوة الأمريكية نفسها، ليس ذلك لأنها تخشى ردود الفعل العربية، ولكن الأمر ببساطة يتعلق برؤى مختلفة لواقع قضية الشعب الفلسطيني، التي بدأت تأخذ مكان القضية الفلسطينية كتعبير لن يلبث حتى يفرض نفسه على الجميع، والرئيس ترامب نفسه أعطى المبرر لإطلاق هذه القضية من خلال حديثه الذي اختتمه بـ(نداء السلام) لإسرائيل والفلسطينيين.
تأتي اسرائيل في خطاب ترامب بوصفها دولة ناضجة ومثالية، وتنهي خطوة نقل السفارة الأمريكية للقدس مشروع التكون الإسرائيلي من وجهة النظر الأمريكية، لتصبح اسرائيل حالة مكتملة، من حقوقها الأصيلة أن تختار عاصمتها، مقابل الفلسطينيين بوصفهم مجموعة بشرية يمكن النظر بعين العطف لمظالمهم الوجودية ضمن حقوق الإنسان، التي لن تختلف في المنظور الأمريكي عن الحقوق التي تتكرم بها قوانين الولايات المتحدة على أنواع الحيوانات المهددة بالانقراض، ولذلك يمكن أن يتركوا في محمية ما ضمن (العطف الاسرائيلي) تكون فيها المستوطنات بمثابة نقاط المراقبة والوصاية على وجودهم الاضطراري في المنطقة.
الشعب الفلسطيني هو الأمر الذي أريد للقدس أن توظف من أجل طمسه والتغطية عليه، بحيث يصبح الحديث اليوم، وسقف الطموحات المشروعة، هو النضال من أجل القدس، ومن أجل العودة إلى الخامس من يناير 2017، ولا يصبح عملياً من مكان لمقولة حدود الخامس من يونيو 1967، وهو ما يعتبر تأطيراً كاملاً، يتخذ صفة العقم الفكري، ليصبح إقرار تل أبيب عاصمة لإسرائيل مطلباً عربياً على المستوى الشعبي، وهو ما لم تكن اسرائيل لتحلم به قبل أشهر قليلة.
ولما كانت القدس، بطبيعة الحال، قيمة دينية كبرى من شأن معاملتها على هذه الطريقة بأن تضرب بعمق في مشروعية النظم العربية على المدى البعيد، فإن المساومة يمكن أن تبدأ اليوم على استيعاب وهضم الشعب الفلسطيني في مكان آخر، بحيث ينتهي حق العودة مقابل تنازل اسرائيلي متوقع ضمن منظومة الحديث عن مدينة دينية، باحترام شكلي لقدسية المدينة لدى المسلمين والمسيحيين.
إعلان نقل السفارة بكل رمزيته ليس هو الحدث في حد ذاته، ولكن ما يمكن أن يعتبر المدخل لصفقة جديدة سيتم وضعها على الطاولة، وستتسارع بعدها الأحداث، وهذه الصفقة جرت مناقشتها على امتداد الأشهر الماضية، واتضحت كثير من ملامحها مع الوقت، ولذلك، فإن «صفقة القرن» الغامضة ستدفع للتوتر ولانقلابات حادة في المواقف، بدأت من اسطنبول مع زيارة الملك عبد الله الثاني، الذي يستشعر الخذلان من تجاهل الأردن بهذه الصورة، وإذا كانت مواقف الرئيس عباس تبقى مرتهنة بتقدير موقفه تجاه خطوة جسيمة، بإنهاء وجود السلطة الفلسطينية بصورة طوعية والانسحاب من عملية السلام، وهي خطوة كبيرة ومعقدة، فإن الأردن سيواجه ضغوطاً غير مسبوقة، على المستوى الداخلي، للتوجه نحو تصعيد يحتاج فيه إلى تحالفات إقليمية ودولية مختلفة.
عمان ليست بعيدة عن القدس اليوم، فالحلم الاسرائيلي يكتمل بعملية تفريغ واسعة للأراضي الفلسطينية تجاه الأردن، وإذا كان الأردنيون على ثقة بقدرتهم، ولو وحدهم، بالوقوف أمام مخطط كهذا، فإنهم يحتاجون بالفعل لكل الدعم، من أجل الاستمرار في الحديث عن حقوق اللاجئين، والعمل على إجهاض طموحات اسرائيل في مشروع الوطن البديل، الذي يعود ليلقي ظلاله على الأردن، وربما على دول عربية أخرى، خاصة أن اسرائيل تعتبر نفسها اجتازت خط نهاية السباق في المركز الأول، وحصلت فوق ذلك على القدس، ونوط الديمقراطية العظيمة من الرئيس الأمريكي، بينما تركت العرب متعثرين في منعطف الربيع، الذي قوض نموذج الدول العميقة، المستندة ولو إلى شرعية حمرة الخجل، ليترك وراءه أشباه الدول تتخبط بصورة مؤسفة.
يستخف الأمريكيون بالمجتمع الدولي، وهو سلوك إدارة ترامب على مختلف الأصعدة، والانسحابات الأمريكية من الاتفاقيات الدولية متتابعة وصادمة، ولذلك لن يقيم الأمريكيون وزناً لتذمر شركائهم الأوروبيين، وقدمت أمريكا ترامب أمثلة متعددة، على أنها لا يمكن أن تمتلك الحد الأدنى من الالتزام بالعمل المشترك، بالصورة التي تهدد تحالفاتها المستقرة، التي تعتبر جزءاً من الهيمنة الأمريكية على الساحة الدولية في العقود الأخيرة، وفوق ذلك، لا يكترث ترامب بأزمة مؤسسات محتملة، في ضوء مغامرته لتحقيق مكاسب اقتصادية سريعة يمكن أن ترضي الأمريكيين، وهو يندفع لاستقطابها بكل طريقة، ويحتاج فعلياً إلى الأموال الدافئة التي يمكن لكوشنر والفئة التي يمثلها تدبرها.
وبالطبع، فترامب لا يفكر مطلقاً سوى في نفسه وفي السنوات التي يأمل في أن يقضيها في البيت الأبيض، وفي استرضاء المستهلك الأمريكي الشعبوي، الذي يفكر في لذة الرفاهية المؤقتة ويتجاهل أهداف الاستدامة التي لا يمكن لسياسة قصيرة النظر كالتي يمتلكها ترامب أن توفرها.
المسألة الفلسطينية ستفرض نفسها بقوة، فالحديث عن ملايين البشر في الشتات مشكلة لا يتحملها الفلسطينيون وحدهم، ولكن تتحملها دول عربية كثيرة، خاصة الأردن وسوريا ولبنان، وشيطنة الفلسطينيين التي بدأها البعض لا يمكن إلا أن تكون بداية لوضعهم على هاوية محرقة معنوية، من شأنها أن تسبب التوتر والاضطراب في أكثر من مكان في العالم العربي، وخارجه أيضاً، ولكنها ستفقد أهميتها مع الوقت، فالفلسطينيون في النهاية تنقصهم الأرض التي يمكن أن تمنحهم وجوداً شرعياً ومستقراً ومبدئياً، وهذه الأرض لا يمكن أن تنتزع من أي مكان، فالعالم ترك وراءه عقلية الاستعمار التي كانت تحاول أن تقدم حلولاً للمسألة اليهودية في أوغندا أو الأرجنتين، كما أن الشخصية الفلسطينية تختلف كلية عن نظيرتها اليهودية ولا تدعي الاستضعاف أو الضعة، وعلى العكس من ذلك، فهي محتشدة بالتوثب والتحدي، وهو ما يجعلها مسألة أكثر سخونة وعنفاً من المسألة اليهودية التي أرقت الأوروبيين في القرن التاسع عشر.
تحدثت فرنسا أولاً، ولكن ضمن إطار الحدث، ويتوقع أن يتوالى الحديث من أطراف أخرى، والألمان لن يتخذوا موقفاً مختلفاً، ولكن ذلك لا يخفف ولا يحيد المخاوف التي تسكن وراء الحدث، وهي لا تقتصر على القدس ولا تنحصر في حدود فلسطين كلها، فالسلوك الأمريكي المطبوع بالاستخفاف والرغبة في المقامرة يدفع بالخوف من بقية برنامج كازينو ترامب السياسي.
كاتب أردني
سامح المحاريق