المقيمون هناك

كلما سقط شاعر موتا، تتقافز إلى الذهن العديد من الأسئلة عن هذا القدر الذي يقتلع النبتة الزاخرة بالعطر، وعن مصير هذا الأخير المودع في الشعر. لأنه بمعنى من المعاني، لا بد أن يموت (أي الشاعر) مغبونا في الحياة والكتابة. فالوضع الاعتباري للمبدع العربي وللثقافة، وثالثا الحيف الذي يعانيه الشعر في التداول والتواصل، كلها عوامل تجعل الموت باردا وهامشيا أمام أصفاد الحياة.
الشاعر لم يتواصل بما فيه الكفاية، ولم يتداول شعره عبر وسائط محتكرة وتفهم الديمقراطية على طريقتها المقولبة والمصونة. غريب، أن تسأل الآن صفوف الشرائح عن أسماء مثل عبد الله راجع وأحمد المجاطي ومحمود درويش ونزار قباني وسركون بولص، وفي المقابل، لا أحد يعرف هؤلاء بل قد يعــــرفون رياضــيا أو مشعوذا متأنقا أو عازفا على الكمنجات بكامل اللغط، مع اعتذاري لكمنجات محمود درويش. الشاعر لم يمر بالمؤسسات الثقافية إلا على عجل، عبر قراءة قصيدة أمام لغو لم يتحرر من حشوه، الشاعرلا يأتي للشاشة إلا عبر لقاءات محتشمة، ولم يتمدد في الإعلام كواحة وصوت محترم.. أعني أننا لم نتنفس الشاعر كحياة، فهذا الحيف غالبا ما يتعدد ويتكاثر بعد موت الشاعر: فلا كتب مركونة تنشر، ولا متاحف تخلد، ولا تقاليد تنكب وتبحث.
ماذا يعني موت الشاعر؟ وهو الذي يحفر امتدادات الحياة في الشعر. ألا نساهم في قتله مرة ثانية حين نتغاضى عن شعره، غير مبالين بأسئلته وحرقته، بل أكثر من ذلك، فخيوط الناس على دوائرهم تمتد لذاته وتعترض طريقه الطويلة، أو ربما تتكلم باسمه وتسطو بدون سمعه ونظره، فيسقط ويسقط والمسافة غير منتهية الشرخ في شعره الطري.
من حين لآخر، بعد أن يسود النسيان والتغييب لأسماء ارتبطت حياتها بالشعر، أسماء تسكن باطن الأرض والحياة كامتدادات هذبت الجنون وسارت على قلق، أقول في ظل ذلك أعود متفقدا دواوينهم اليتيمة لأتقرى ملامحهم وصيغهم الجمالية التي حيكت ونسجت بنبل وفراسة يخطئونها ويمرغونها في وحلهم الذي لا نظر له إلا في الوحل.. وهلم وحلا.. شعراء حملوا حيواتهم في قصائدهم، بل بعضهم أثث قصيدته كمسكن أبدي، والذي يشدنا إليهم حقا هو تلك الحيوات والأنوية الممتدة في الأشياء وحبال الحياة، لأنها وليدة تجارب عميقة، لكن اللافت للنظر والمثير للدهشة هو أن هؤلاء بقدر اختفائهم، بقدر سقوطهم من الذاكرة. وهو ما يدفع إلى التساؤل: هل أثثنا وعينا المشترك وثقافتنا بعطاءات الغائبين والراحلين، من خلال نفض الغبار عن آثارهم بالتعريف والدراسة؟ يبدو أن العكس هو الحاصل، لأن الكل (أفرادا وجماعات) يعيش مكرها، غير أن شعراءنا المقيمين هناك كما الشعر، أقوياء بالكتابة وفيها كأنهم أعمدة لا يمكن التغافل عنها أو تجاهلها في أي حال من الأحوال مهما تكاثر الجوع واشتد العمى، أعمدة ينبغي استحضارها، لا للتمسح بها كما نفعل في نعينا وتكريمنا وندير ظهورنا للصداقات في الحياة والكتابة من أجل الفتات، بل لنتقاسم معها عبء واقع ووجود قائم وجاثم.. وأظن أن الأسماء العميقة في الحياة والكتابة تبقى على كتابة في تلك الأبدية المندغمة بالوجود كأعماق وأفواه تقول ما لم يقله التاريخ والعادة التي تبلد الحس بمنطقها الرتيب. أظن أن التوظيف الأيديولوجي والاستهلاكي للشعر، لم يمنح لهذا الأخير شيئا يذكر؛ ما عدا تصفيق الجمهور الذي يسعى إلى الرفع من صوت الشاعر إلى حد الصدح الغافل والصراخ الآني.
كما أن التوظيف المناسباتي يغطي على همس الشعر العميق كما شرايين القبور. فمثلما أننا نضع بعض المنحوتات (إلى جانب صحون الطاوس طبعا)، ونتفاعل معهــــا إنسانيا كلما أرسلنا نظرنا اتجاهها، الأمر نفسه ينبغي حضوره في تلقينا للشعر كتشكيل يقتضي تقليبه ومداعبته، كما علاقاتنا بالأشياء الصغيرة. الشيء الذي يبني الإنسان كوجدان ومخيال.. وهو كفيل بتعميق الإحساس بمفردات الحياة، ومنها الشاعر ككائن يحيا وجوده إشكاليا على أرض تدعى القصيدة.
بكل تأكيد، يبقى في الحياة الامتداد أو القليل المنثور الصعب على الهضم السريع والقضم المشوه، الامتداد الذي يواصل المسير في تشذيب لأعشاب القلق، لذا وجب اللوذ بالجميل من البشاعات التي تطاردنا أحيانا بمناكب «الأصدقاء»، أما الأعداء فلهم جدارهم طبعا.

٭ شاعر وكاتب مغربي

المقيمون هناك

عبد الغني فوزي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية