لا شيء يمر بسهولة على بني آدم، لا شيء يلامسه إلا ويترك آثارا عليه، يمضي في عمق الزمن مسافرا بحمولته التي تكبر يوما بعد يوم، يتغير ويتوحش ويهدأ ويضحك ويبكي، ويقاتل ويقتل، ويتناسل وينجب، ويكره ويحب ويغار وينهار، ويؤمن ويكْفُر ويُكَفِّر ويتجبَّر و»يتفرعن»، ويبالغ في الإساءة لبني جلدته عكس كل مخلوقات الله، ثم حين يتعب يتوقف، يسقط مثل ورقة خريفية تلهو بها رياح الشتاء، قبل أن تتحلل وتصبح لا شيء.
هذا هو الإنسان، كائن متلون، أثبتت ملايين السنين أنه لا عاقل ولا متعقل، هو كائن متأثِّر، يسهل تشكيله مثل العجينة الطرية، وكأنه شريحة كومبيوتر يُبرمج فينطلق في هذه الحياة مثل أي «ربوت»، مثل تلك الربوتات التي نراها في الأفلام. لا شيء في أفق الإنسان يبشر بعصر تخيم فيه الحكمة والسلام على هذه البسيطة، أو على جزء منها، هناك دوما تحت البحيرات الهادئة كائنات تفترس بعضها بعضا لتعيش، وفي الظلال المعتمة خيالات لوحوش نائمة تنتظر لحظة الغفلة للانقضاض على فرائسها.
هذا الكائن المتأثر بالقديم والجديد، بالأموات والأحياء، هذا الذي يأكل لحمه إن لم يجد ما يأكله، كيف يمكننا تصنيفه بين كائنات الله كلها، هذا الذي لا تعجبه الطبيعة على طبيعتها، ولا البهائم على فطرتها، ولا حتى نفسه على ما خلقت عليه، لماذا لا يتوقف عن مسخ جماليات هذا العالم؟ لماذا لا يتوقف عن أخذ الأدوار الأبشع في الحياة وتقمصها؟
لماذا يتأثّر ويؤثر؟ مثل إسفنجة تمص ما يسكب عليها حتّى التشبع، باستسلام لا تفسير له في الغالب، شريحة اجتماعية واسعة تبتلع ما يقدم لها من وجبات قد تغذي وقد تؤذي . هذا العقل المعطّل كيف نفهمه؟ وكيف نجعله بعملية التأثير نفسها يشتغل بالشكل الإيجابي الصحيح، فيفكر ويقرر ويسيطر على نفسه لا أن يُسَيطر عليه.
نعم من المضحكات أننا ندعي أننا أحرار، وأن قراراتنا في أيدينا، وأن هناك نخبة ونخبة النخبة تضيء الطريق للأمم، وأن هناك مؤسسات ضخمة بأموال تفوق ما ذكر عن أموال قارون، تسخر لإدارة حياة هذا الكائن، لكن في الحقيقة إن كل شيء ينهار أمام موجة معينة تناقض العقل فتمشي خلفها الأغلبية بدون أدنى تريث. أليس هذا قمة الاستسلام ونحن نمضي وراء توجه الأغلبية؟ حتى حين نبقي دواخلنا مليئة بقناعاتنا الخاصة، ونحميها بذلك الغطاء الخارجي البراق الذي يرضي الأغلبية بشكل مؤقت، فإننا في الحقيقة نستسلم، ونعدّل سلوكنا بما يتناسب مع الموجة الغالبة، بدون أي ضغوطات تذكر، إنه انقياد عفوي، ولو على خطأ مع الجماعة.
بإمكاننا أن نتلّون، ونتغيّر حسب المتطلبات التي تفرضها الساعة. بإمكاننا أن نتهم الضحية أنه مجرم، ونعاقبه على جريمة لم يقم بها وتكون ضمائرنا مرتاحة، ذلك أننا انصهرنا في المفهوم الجمعي للقضية المطروحة، في بلدان معينة. على سبيل المثال لا تزال المرأة تعاقب على نوعية لباسها، يعتدى عليها في الشارع، أو تحاكم وتسجن، وربما تجلد حتى الموت لأنها لا تضع غطاء الرأس، ومع أن الأمر مستثنى لدى بنات العائلات الثرية أو السياسية الشهيرة مثلا، إلاّ أن القاعدة الشعبية تعتقد أن قوانينها الصارمة، التي تصاب بها مثل الوباء، يجب أن تطبق على الفئات الفقيرة المسحوقة، يحدث ذلك في كل مكان من العالم، إلى أن تستعيد المؤسسة الحقوقية عافيتها، وتخرج من متاهة التأثيرات الاجتماعية الغبية، التي تتحكم فيها الأهواء البشرية الهشة السريعة الانتشار بسبب سهولة التأثر بها.
وفي المقابل تبقى الأفكار الصعبة، العصية نوعا ما على الفهم، أو التطبيق خارج سياق التأثير، وبالتالي أبعد ما يكون لغرسها في الجماعات الطاغية بسلوكها غير المتحكم فيه بالعقل. هذا يسمى بالخوف من «الرّفض الاجتماعي» نذعن لخيارات الأغلبية، حتى لا يغضب منا الأقارب والأصدقاء، حتى لا نغضب رؤساءنا في العمل، حتى لا نخسر «لقمة العيش»، أو تفاديا للأذى الذي يمكن أن يلحق بنا، أو بعائلاتنا، نقف أمام متتالية رياضية معقدة وعجيبة مناقضة للعقل، ومع هذا لها سلطة تفوق أي سلطة أخرى.
في اختبارات سهلة وبسيطة يطرح سؤال لمجموعة عن نقطة ضوئية على لوح أسود، النقطة لا تتحرّك، لكن بمجرد زرع ثلاثة أفراد يصرون أن النقطة تتحرّك حتى ينجرّ أغلب أفراد المجموعة لتكذيب ما يرونه والتأكيد في إجاباتهم على أن النقطة تتحرّك. أما الدهشة الحقيقية فتأتي في ما بعد، حين يعرف الجميع الحقيقة، فتأتي التبريرات كلها مبنية على الخوف من تلك الأغلبية، فكل حياد عنها قد تكون عواقبه وخيمة، وأخفها ضررا الاحتماء بقاعدة «إن عمّت خفّت». بالمقابل ألا توجد تأثيرات للأقليات؟ ألا ينجر مئات البشر خلف رأي فردي لشخص معين، أو لفئة قليلة تتسع حتى تغطي أفق الرؤية لدى الأغلبية؟ ألم يبرز هذا الطرح منذ مطلع الستينيات بحثا عن أجوبة مقنعة لظواهر بشرية غريبة تبدأ بحالة وتنتهي بانتشار لا يمكن حصره ولا رسم حدود نهايته؟ تلك التأثيرات «النّاعمة» التي تقوم على طريقة اللباس، و»اللوك» المقدم عبر الإعلام بأنواعه، ومواقع التواصل الاجتماعية اليوم. خلطة سحرية لا علاقة لها لا بالفكر، ولا بعصارة القراءات الصعبة، ولا بفلسفة المفكرين ولا بأطروحات العباقرة، إنها مجرّد «خلطة» نجحت إلى ابعد حد بصناعة «مؤثرين» يقودون الشعوب في الاتجاهات التي تخدم مصالح أباطرة المال بالدرجة الأولى.
طبعا على هذا المبدأ بنيت إمبراطوريات المال، لتسويق أي منتج – حتى إن كان مضرا بالصحة – باختيار شخص واحد مؤثر يقود الجموع إلى حيث يريد بثلاث كلمات لا غير، وربما بدون كلام، وهو يتعاطى المنتج بشهية وتلذذ، تسقط مباشرة بعده كل المعطيات العلمية والأرقام المخيفة لضحايا ذلك المنتج.
لا شيء يقف أمام تقنيات التأثير التي يلجأ إليها أصحابها، وهم سادة فتح الأسواق، بكل الطرق الممكنة، بدءا بالإغراء الناعم إلى تفجير الحروب. هذه التقنيات ليست حكرا على شركات عظمى، أو مؤسسات على مستوىً عالٍ في سلم الحكومات، إنّها منتشرة حتى على مستويات بسيطة جدا، على نسق المشعوذ الذي يتحكم في مصير جماعة بأكملها، مدعيا أن الجان والشياطين مسخّرة له، فنجد المتعلم والجاهل يلجأ إليه لفهم نكسات الحظ الملاحقة به، في ميلودراما غريبة لا يقبلها العقل، ولكنها مستمرة في الحدوث.
هذه المعطيات كلها، قد تكون المفتاح السحري لأي شخص، سواء كان مثقفا أو غير ذلك لرسم خطة للتأثير على الآخرين، والتربع على عرش قيادة مجموعة كبيرة، تفتح له بتبعيتها آفاق الشهرة والمال والنجاح. نعم بقدر سهولة الموضوع، بقدر صعوبته في آن، لكنه ممكن والنماذج لا تعد ولا تحصى، وكلها انطلقت من معطى واحد رئيسي وهو أن الإنسان كائن متأثر.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
الأخ المحترم سيف كرار: أشكرك على المتابعة.أتعلم كم معنى للفظة { البلد } ؟ منها البلد : مكة نعم ؛ والبلد البلاد ؛ والبلد التراب ؛ والبلد القبروالمقبرة ؛ والبلد الدار( يمانية ) والبلد الإقامة بالمكان ؛ والبلد المبارزة بالسيوف من المبالدة ؛ والبلد الصدرالواسع ؛ والبلد الأثرمن الشيء في الجسد ؛ والبلد الحاجبان غيرالمقرونين ؛ والبلد السحاب غيرالممطر؛ من بلّد السحاب…والبلد الغبي من البليد.ولوأردت سأزيد لك المعاني مع أدلتها.وكذلك البلد الذهب والفضّة.أبحث وستجدها ؛ فليس كلّ شيء تريده يكون جاهزًا بين يديك في الجريدة هكذا.إنْ بحثت لن تنسى ؛ أما الجاهزفيُنسى.وتذكّرأنني لا آتي بشيء من دون سند ؛ إنْ شاء الله ؛ وكذلك تذكّرأنّ لغة القرآن العظيم ليست هي لغة العوام ؛ سأكتفي بهذا الردّ حتى أكمل قراءة رواية بول أوستر؛ مع تحياتي.
فعلا ليس معقولا ان الله يقسم بالشاعر أو بامثاله بالنسبة لسورة النجم { والنجم إذا هوى }.وهوالقائل عنهم في سورة الشعراء : ( والشعراء يتّبعهم الغاوون ).رؤية الدكتور جمال الجديدة رائعة وغير مسبوقة.
أخي الكريم قسطنطين زيدان من الأردن الشقيق : أشكرك ؛ ومعجب بفطنتك اللاقطة للدلالة…وتحضرني الآن مقولة الإمـام : عليّ ابن أبي طالب في نهج البلاغة موجهًا كلامه لكُميل النخعيّ : { ياكُميل : القلوب أوعية ؛ بعضها أوعى من بعض }.فليبارك الله بقلبك الواعيّ للحقيقة.
يسعدني أكثرالتركيزعلى مضمون مقال الدكتورة العزيزة بروين حبيب ؛ كي لا نتجاوزعلى حصتها فنكون من ( الظالمين ).ولا ظلم مع الودّ.
تحت ظل هداالموضوع الفني الثقافي اضع فقط كلمة قصيرة جدا جدافاالمنبروقلناهدالايضع اي شيء على ظهره الااداكان متميزايسثحق النظرة يسثحق الكلمة ومفيد بين قوسين الله لايقسم الاباالشيء المتميزعن غيره لاالشعر.
الشعراءومن الجنس الثاني لكل اساليبه ولكل نظرته للأشياء كيف ماكانت فااللغة العربية بحورلاشاطئ لهاولاحدود نقول نحن كلمتناوالآخروهكدا .
شكراللمنبروتحية للقلم الدي رسم هداالموضوع .