في فيلم «مستر بينز هوليداي» ( أي عطلة مستر بين) الذي أخرجه البريطاني ستيف بندلاك (2007) مقطعٌ مميز يجسد فيه «مستر بين» على طريقته المَرِحَة مشهدا غنائيا من مشاهد الأوبرا في مكان عام ليحصل على المال ويواصل رحلته إلى مدينة «كان» الفرنسية، مع الصبي الذي جمعته به الصدفة.
في المشهد استخدم المخرج وهو مختص في المؤثرات السينمائية الخاصة، خُدعة فنية مكشوفة وعلنية تتمثل في المحاكاة الموسيقية. ذلك أن السيد بين كان يحاكي بحركة الشفاه، أغنية أوبرا، بالاعتماد على مضخم صوت تابع لأحد الباعة في السوق؛ كانت الأغنية بصوت ماريا كالاس (ترجمة عنوانها: آه يا أبي العزيز) فانخرط الممثل المحاكي في الدور بأن وضع على رأسه غطاء هو في الأصل سترة نسائية انتزعها من على ظهر امرأة تتبضع . حمل «بين» الطفل بين يديه بعد أن أومأ إليه بأن ينخرط في المشهد ويمثل دورَ الميت، فمات الصبي بين يدي أمه وهي تغني بحرقة مقتله (كلمات أخرجت عن سياقها الأصلي) ثم سجته على الأرض ولم تلبث أن فاجأها الموت وهي تتم مشجاتها فتمددت أرضا تحت قدميه. صفق جمهور الصدفة الذي تجمع أمام هذا المشهد المسرحي الأوبرالي، وأغدق على «السيد بين» المال، فوفر له ولصبي الصدفة ما به يوفران ثمن تذكرتين.
ما يعنينا من هذا المشهد هنا هو أن كسب المال اقترن بالمَشهدية التي تعني عندنا تسخير علامات مختلفة بصرية أو سماعية لغوية وغير لغوية من أجل إنجاح مشهد يُعرض على العموم. تساهم في مشهدية المسرح الأضواء واللباس والديكور و الموسيقى والإشارات والإيماءات والحركات الدالة التي ترسلها أجسام الممثلين، يضاف إلى كل ذلك إيقاع الأصوات وهي تؤدي الكلام أو تغني. يشرف على المشهدية في المسرح المخرج والمهندسون والتقنيون وبراعة الممثل وتفاعل الجمهور، فهي مشهدية مسبقة التنظيم شأنها شأن المشهدية في السيرك، وحتى في بعض عروض الشارع.
مشهدية الشارع التي من نوع مقطع الفيلم المذكور بسيطة، على عكس مشهدية الفضاءات المغلقة المنظمة سلفا. المال يُعطى ههنا لقاء فرجة، ولكن يعطى بالأساس لقاء الحس السليم: أي لقاء الحكم الذوقي التفاعلي على المشهد وعلى اجتهاد صاحبه؛ وليس هذا المال كالمال الذي يُعطى في شباك التذاكر ثمنا يدفع مسبقا لبضاعة لم تستهلك. مشهدية الشارع ترتكز لا فقط على وجدان رجل الشارع العادي، بل على منسوب تفاعله مع الفنان البوهيمي الذي يعيش على هامش المجتمع، وينتج ثقافة على هامش الثقافة التي تعترف بها المؤسسات الرسمية. لكن مشهدية الشارع لا تقتصر فقط على هذا الضرب من الثقافة البوهيمية التي يرعاها بماله القليل رجلُ الشارع، بل نجد لها أشكالا أخرى نذكر منها ههنا مشهدية التسول، التي تعترضنا في شوارع البلاد العربية الفقيرة، أكثر مما تعترضنا فيها المشهدية الفنية البوهيمية.
قد يكون التسول حاجة، ما في ذلك شك، وقد تكون ألبسة المتسولين فعلية ووجوههم بلا أقنعة وكلامهم هو كلامهم. في هذه الحالة لن نتحدث عن مشهدية لأن المسرحة غير موجودة ووجه المتسول ولباسه وكلامه لا تستخدم علامات في المسرحة، أو في التوزيع الأوركسترالي لمشهد التسول. لكن ما يعنينا ههنا التسول إن كان مشهدا مسرحيا يتخفى وراءه ممثلون من أجل كسب المال كسبا يعتمد على الإيهام بالحالة والدفع إلى التعاطف. هذا الضرب من المتسولين ممثلون بارعون يَعتمدون على استخدام كثير من العلامات من بينها الثياب. يكون اللباس علامات مميزة؛ فالثياب البالية الممزقة هي عندهم علامة انتماء طبقي لا إلى فئة الفقراء، بل إلى ما تحتهم وهي فئة المدقعين، الذين ليس لهم كما يقولون «غير وجه الله». في الثقافة التي تؤمن بأن «اللباس يصنع الأمير» كما يُقال ، تصنع الأسمَالُ الفقيرَ. الفقر صناعة ومنتَج ثقافي لعبت الثياب الدور الأكبر في إنتاجه، وما تزال تلعب في ذلك. الثياب هي أهم علامات مشهدية التسول، ولذلك يعمد من يستعملها من الممثلين المتسولين إلى أن يفتعلوا فيها خللا في الانسجام: انسجام الألوان وتفاوت الأحجام وتداخل الترتيب.. ويضاف إلى كل ذلك خلل العمد إلى توسيخها وتمزيقها وهلهلتها. اللباس في هذه المشهدية يؤسس ماهيته الدالة من تقابله لا مع اللباس الراقي، بل مع اللباس العادي.
ومع اللباس تدخل علامات أخرى ثابتة هي علامات تستمد من هيئة الجسد ومن حركاته. اليد الممدودة في وجه المارة رمز ثابت في التسول، هي حركة تستمد دلالتها المُفارقة من التدين: عند الدعاء؛ ولكنها تكون ههنا يدا مفردة نقص عددها من نقص قيمة من تدعوه وتشابه هيئتها من تشابه دلالتها الخطاطية فالدعاء والتسول يكون كلاهما إلى من تعالى بالألوهية أو من تسامى بالطبقية.
العلامة الثالثة التي تصنع المشهدية هي لغوية شفوية، هي النص الذي يلقيه المسرحي المتسول ويكون قد حفظه وكرره آلاف المرات؛ هو في الغالب نص طرازي يذكر المتسول فيه رجُلَ الشارع، أن ما يَهبه هو متاع إلهي وليس الواهب إلا واسطة بين الوهاب الفعلي ومن يستحق تلك العطية. يصبح التسول ضربا من التوازن الاجتماعي والأخلاقي اعتمادا على أسس دينية. في هذا السياق نفهم القاعدة البوذية القديمة التي تقول: «لا تُهن المتسول فإن الله على جَنبَيه». بهذا النص الطرازي يُحيدُ كل شيء فلا المتسول ضعيف وإنما قدر الله أن يكون في رتبته؛ ولا المتسول منه قوي فالمال ليس له: كل شيء مقدر له أن يحدث كما يحدث؛ وهذا يعني أن رفض الاستجابة هو خرق لحتمية القضاء والقدر وخروج عن انسيابية القوانين الطبيعية وجريانها بشكل طبيعي. مسرحة التسول تقتضي أيضا تلاعبا بالصوت يميل إلى الانكسار وتنغيما ينسجم مع الدعاء لك قبل أن تمنح، وبعد أن تمنح للنغمة صدى في النفوس تُضاف إلى تأثير نص الدعاء، وإلى زمان الدعاء به، لكن هناك عناصرَ تُضاف إلى المشهد الطرازي المُمسرح هو مصاحبة غلام صغير أو رضيع ، يحضر الصبي بالصمت أو بالنوم وعادة ما يكون وجهه ملائكيا بريئا. البراءة علامة عادية لكن ينبغي أن تفهم في سياق حضور الطفل في هذه الوضعية على أنها تقترن بسُوء الطالع وبالحرمان من الحق الطبيعي لا في العيش، بل في النمو.
مشهدية التسول هي ضرب من مشهدية الشارع تعتمد علامات المسرح للإيهام لا للخيال. التسول يقوم على مهر الإيقاع في شباك الوهم، وحين لا تنطلي الحِيلة لن تحمل المشهدية على المسرحة، بل على الدجَل.
مشهدية التسول المُمَسرحة يمكن أن تلحظ بأشكال أخرى تمارس فيها فئات كثيرة التسول وتعتمد فيه المسرح؛ لكن تختلف الوضعيات والمتسولون وطرق تمثيلهم وما يرومون أخذه منك. في السياسة مثلا نوع من مشهدية التسول أبطالُها يرتدون عند الانتخابات رفيع الثياب ويقولون منمق الكلام ويَعِدون، يا إلهي كم يَعِدُونَǃ ويحلم الجمهور، يا إلهي كم يحلم الجمهورǃ تقول الروائية السويسرية شوارزنباخ: لا يهم إن كان أولئك متسولين أو ملوكا، المهم أنهم ممثلون كبار في الكوميديا الكبرى نفسها».
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
توفيق قريرة
هذا المقال يذكّرنا بـ”ميلاد البلاغة” و الجملة الشهيرة “سيأتي الربيع و لن أراه”. شكرا أستاذ قريرة على هذه المقالات التي أصبحنا ننتظرها بلهفة لننعم بهذه الرؤية المميزة للعالم و الأشياء.
مقال لطيف بجملته: لا يهم إن كان أولئك متسولين أو ملوكا، المهم أنهم ممثلون كبار في الكوميديا الكبرى نفسها» واقعيا تشمل الجميع بلا إستثناءآت ؛ ولكن بدرجات أو بحالات وضرورات ومواقع وتمثيل طبيعي او إختياري أو بهدف نبيل أو وضيع. فالتسول علامة لهذا الموضوع في التحليل. أي تسخير العلامات لهدف ما في ذهن الممثل. فلا توجد صدفة في إختيار هذه العلامة في دلالتها من الفاعل لأداء دور مفعول التسول.فورود كلمة صدفة ثلاث مرات تتناقض مع إختيار التسول أيا يكون؟! فلا يوجد في الكون كله شيء إسمه صُدفه. فهذه كلمة بلا دلالة عقلية بل هو تعبير شعبي يُطلق جُزافا من العامة لعدم امكانية فهم موقعهم من نظامهم في النظام الكوني ومنه الاجتماعي وشبكة العلاقات في الحركات بين البشر. فيزيائيا لا توجد صدفة. ولم تأتِ كلمة صدفة في خلق البشر والكون في كتاب الله. بل (كُلًّ في كِتاب) أما موضوع التسول فليت كاتبا بارعا يشرح طبقات المتسولين في المجتمعات ونفوسهم وأساليبهم في الخداع فهم كذلك علامات. سمعتُ أنَّ شخصا كتب عدة كتب أحيانا في غير إختصاصه فكان يتسول لإصطياد المعلومة من الاخرين لكي يسردها في مقالاته وكتبه ولا يشير الى مصدرها؛ فالمتسولون علامات مُخادعة بلا ضمير وبضحالة التفكير ولكن لهم هدف فكيدهم خفيَّ بأبعاد شتى. وكُلٌّ له دوره ومجاله وإمكانياته ومستواه.
معقـولة تـكون صدفـة …..!!!! ام ان هـناك تفسيراً اخر ؟
في یوم (4/ Dec./ 2003) تمَّ اعدام صدام حسين…
في یوم (4/ Dec./ 2011) تمَّ قتل معمر القذافي…
في یوم (4/ Dec./ 2017) تمَّ قتل علي عبدالله صالح…
مقال لطيف بجملته: لا يهم إن كان أولئك متسولين أو ملوكا، المهم أنهم ممثلون كبار في الكوميديا الكبرى نفسها» واقعيا تشمل الجميع بلا إستثناءآت ؛ ولكن بدرجات أو بحالات وضرورات ومواقع وتمثيل طبيعي او إختياري أو بهدف نبيل أو وضيع. فالتسول علامة لهذا الموضوع في التحليل. أي تسخير العلامات لهدف ما في ذهن الممثل. فلا توجد صدفة في إختيار هذه العلامة في دلالتها من الفاعل لأداء دور مفعول التسول.فورود كلمة صدفة ثلاث مرات تتناقض مع إختيار التسول أيا يكون؟! فلا يوجد في الكون كله شيء إسمه صُدفه. فهذه كلمة بلا دلالة عقلية بل هو تعبير شعبي يُطلق جُزافا من العامة لعدم امكانية فهم موقعهم من نظامهم في النظام الكوني ومنه الاجتماعي وشبكة العلاقات في الحركات بين البشر. فيزيائيا لا توجد صدفة. ولم تأتِ كلمة صدفة في خلق البشر والكون في كتاب الله. بل (كُلًّ في كِتاب) أما موضوع التسول فليت كاتبا بارعا يشرح طبقات المتسولين في المجتمعات ونفوسهم وأساليبهم في الخداع فهم كذلك علامات. سمعتُ أنَّ شخصا كتب عدة كتب أحيانا في غير إختصاصه فكان يتسول لإصطياد المعلومة من الاخرين لكي يسردها في مقالاته وكتبه ولا يشير الى مصدرها؛ فالمتسولون علامات مُخادعة بلا ضمير وبضحالة التفكير ولكن لهم هدف فكيدهم خفيَّ بأبعاد شتى. وكُلٌّ له دوره ومجاله وإمكانياته ومستواه. لعل هذا لا تريد نشره بل فقط المدح فأنا لست من المداحين في التسول بالكلمات العلامات الميتة. ولهذا ترى الامة نائمة وتؤكل من أقطارها بعد فساد جوفها علامة الانحلال فالصحافة مكبلة وهي فقط للمادحين. ولأصدقاؤها المُغردين. والعرابين.
الرجاء تصحيح للنشر
وصلني هذا على الواتس-آپ، فشككت بالموضوع وبحثت على الفور عن تواريخ إعدام صدام ومقتل كل من القذافي وصالح فتأكد شكي باليقين بعدم صحة ذلك فكتبت الآتي:
لا صدفة، ولا مؤامرة، ولا معجزة. تواريخ مقتل الثلاثة مختلفة تماما فصدام أعدم في 30/12/2006 والقذافي قتل في 20/10/2011 وعلي عبد الله صالح في04/12/2017