اختزلت كتب التاريخ اولى صور الديمقراطية السياسية في محفل أثيني مقام على مسرح في الهواء الطلق، يجلس الشعب فيه على مقاعد حجرية، والكلام متاح فيه لكل خطيب، وكان الشعب صاحب السلطة الحقيقية، صحيح بمئات من البشر محدودي العدد ومتجانسي العرق تكون ممكنة الحدوث، بل تمثل صورة راقية وممتعة جدا، لكن في زماننا هذا وبملايين البشر يستحيل تحقيق الميدان كصورة من صور الديمقراطية. ان كان الهدف من الثورات التي زحفت على هذه الدول هو احلال نظام سياسي عادل يقوم على التداول على السلطة، وحماية الحريات، وتعزيز حقوق الانسان الاساسية وحقه في التعبير الحر عن رأيه، واختيار من سيحكمه في ظل دولة مدنية، فأقرب الأنظمة الى هذا المبتغى هو النظام الديمقراطي بأدواته، الاقتراع والترشح الحر والصندوق، لكن المأزق ان يتحول الشارع الى صندوق اقتراع كبير، التزوير فيه صعب، لكن حساب المصوتين ضرب من الجنون أكبر، لنفترض مثلا ان جميع الذين خرجوا هم اولئك الذين صوتوا بنعم وفي ميادين أخرى بالذين صوتوا بلا، ماذا لو بحثت الفئة الصامتة في المواعيد الانتخابية، وهي الفئة الاكبر دائما، عما تبقى من ساحات وميادين وازقة لتملأها معبرة هي ايضا عن رفضها لكل ما هو معروض على الساحة السياسية، او لتعبرعن لامبالاتها.. ألن يفترش الشعب كله الشوارع؟ ربما تحتاج الديمقراطية الغربية التي نريد ان نطبقها في بلداننا العربية ليس الى مسرح في الهواء الطلق، ولا الى رئيس جديد، بل الى شعب جديد ايضا ومناخ جديد لفهم الديمقراطية ابتداء، وإلا صار على الجميع التفكير في نظام يشبهنا كعرب تحكمه قاعدة – الميدان – وقدرة كلا الطرفين على حشد الجماهير. صحيح ان الثورات اسقطت من مخيال الشعوب ككتل صورة الحاكم المهاب والمقدس والمبجل، الذي لا يناقش، فكيف ان يساءل، وزمن الحكم الواحد والرأي الواحد، بعد ان فضح حكام بلدان الثورات انفسهم بأعمالهم وأقوالهم واستخفافهم واستفزازهم لمشاعر محكوميهم، الذين طالما بجلوهم وقدسوهم بالمقابل، كما ان هذه الثورات اسست لمرحلة جديدة تتمثل في مهمة الحاكم اليوم، التي اصبحت اصعب مهمة في التاريخ والعالم وفي نظام يسعى الى ارساء قواعد الديمقراطية السياسية. اذ تقتضي الديمقراطية الحقة من الحاكم الا يفرح كثيرا ولا ينسى انه لم يحض سوى بقبول فئة من الشعب اهلته لمنصبه ممن خرجت للتصويت، وبأن فئات اخرى ممن سيحكمها صوتت بلا رافضة لشخصه او مشروعه، وبأنه سيحكمهم رغما عنهم، وبأن هناك فئة ثالثة كبيرة من شعبه صامتة لا يستبين له رأيها، وان يفهم ان سلطة الحكم مرتبطة بخدمة ليس من فوضوه وصوتوا له فحسب، بل خدمة جميع تشكيلات محكوميه من اطياف والوان. صارت مهمة الحاكم في دول الثورات العربية في هذه المرحلة الحرجة من التحول بالذات ان يجلس ويتواضع ويتحلى بكثير من الذكاء والحكمة والكاريزما والقوة والسلاسة، وان يحمل فكرا توافقيا، بل تفاوضيا وان يحقق التوازن الاخطر والاكبر والاصعب بين تواضعه من جهة والحفاظ على هيبة المنصب والمؤسسة والسلطة والدولة من جهة اخرى. بالمقابل يقتضي الفكر الديمقراطي ايضا ان يوازن الشعب بين احساسه كحاكم لأموره باعتباره هو من اختار حاكمه واعطاه سلطته، وبين ان يكون الشعب ذاته محكوما ورعية وخاضعا.. ويصبح الامر بذلك اشبه بالتعايش بين الحاكم والشعب. وموازنة اخرى ضروري ان تتحقق، وتتجسد في ضرورة امتثال الفئة القليلة او الكثيرة الرافضة او الصامتة لما افرزته الديمقراطية والتحلي بالصبر والالتجاء للصندوق. لم يحدث الاجماع مطلقا حول جدوى الميادين، ففي حين كشفت الاحداث انه بنزول الالاف من الناس للشوارع انهم عبروا عن رغبتهم بالمشاركة في صناعة ما رأت فيه حفاظا، ليس على مصيرها ككتل او كأمة، بل اعتبرتها ضرورة للحفاظ على كرامتها الانسانية، عن حقوقها عن مصير حرياتها ورغيف عيشها. هناك فئة ليست بالهينة ايضا لامبالية رافضة لكل هذا الزخم الذي افسد عليها نظام حياتها وعملها وكدها، فئة اقلقها تغير اجوائها التي اعتادت عليها، وان غرقت في متاعبها، غير انها ألفتها وتكيفت معها وأضر بها اضطراب حركة القطارات والمطارات والسيارات والأسواق والمستشفيات والمساجد والسياحة بها. لست بالقومية حصرا ولا اليسارية حصرا ولا العلمانية حصرا ولا الاخوانية حصرا، وليس من حق احد ان يشكك في نوايا الاخر، ولا يحق ايضا ان يصادر أحد من الاخر حبه لوطنه او يشكك فيه، من حق الجميع بل من واجبهم ان يخافوا بل ويخشوا من كل ما يحدث لدولهم، لانها المكان الذي ينتمون اليه وهي نفسها الحيز والمجال والمحيط الذي يتحركون فيه ويسعون ويروحون ويجئون ويقتاتون ويفرحون ويتألمون ايضا ويعيشون . قد تذوب الافكار، وقد تحظى بفرصة تطبيقها، قــد تثبت نجاعتها وقد تفشل، وقد تحيا الفكرة بعد موتها احيانا، لكن لا يقبل اي عاقل ان تكبر فكرته او تياره او نزعته او مشروعه على الوطن أو على حسابه وقناعته، ان لم تعش الفكرة فلا عاش الوطن. وحده الوطن لن يتكرر واذا ما راهنا عليه فـقد نا المكان الذي يجمعنا ونعيش فيه، بل قد تضيع بضياعه فرص مراجعة افكارنا وأخطائنا وفرص التصالح مع فرقائنا. السياسة لعبة من نار، والعمل على دمقرطة الاشياء في جو مشحون ومصبوغ بانعدام الثقة والسخط تحتاج للتحلي بكثير من الذكاء والتواضع واحترام الاخر واشراكه والتفاوض معه حتى يتخلص الجميع ايضا من الشعور بالاقصاء والخذلان والقهر وخيبات الامال.