إسرائيل وما تبقى من الطوق العربي

ما كانت الحكومة الأردنية بحاجة لأن تحرض الشارع على الاحتجاج الواسع لرفض قرار الرئيس الأمريكي ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فالشارع كان متأهباً للحراك، ولم يكن مستعداً للتراجع لو اتخذت الحكومة موقفاً معاكساً لاتجاهه. وما لم يتفهمه من يتابعون الوضع الأردني، ويعتقدون أن الأردن وصل إلى مرحلة الإرهاق، التي ستجعله بحاجة إلى مدار سياسي يسحبه في عنفوانه، هو طبيعة التجاوب بين مختلف الأجنحة في الأردن، بحيث كان أداء الأردن دافعاً لإعادة ورقة الحسابات على الطاولة من جديد، لأن الأمور لم تذهب في الاتجاه الذي تصوره الأمريكيون، وحجم المسؤولية التي ألقاها الأردن على الأطراف الإقليمية المتعطشة لصفقة تشكل نهاية الربيع العربي كان أكبر من أن يتم تجاهله.
لحق لبنان بالأردن، وقدم أداء لافتاً للانتباه، وبلغته العربية ضعيفة المستوى تمكن وزير خارجيته جبران باسيل من تقديم خطاب جريء ومتماسك في مواجهة المشروع الأمريكي، وبين لبنان والأردن الصغيرين في الإمكانيات والكبيرين في خبرتهما السياسية، خاصة في ما يتعلق بالمواجهة الطويلة والممتدة مع (اسرائيل)، يوجد العديد من الفروقات والتباينات على أرضية حقيقة واحدة، كانت تسمى في زمن سابق بمعادلة دول الطوق.
السؤال التكتيكي في بعض الدول العربية يتحول في دول الطوق، خاصة الأردن ولبنان، إلى سؤال وجودي لا يمكن الهروب منه، فما بين سطور ترامب ظهرت اسرائيل القائمة على أساس ديني يرفض الاختلاف والتفاوض حول حدود وجودها وشروطه، وذلك سيكبد الأردنيين واللبنانيين معا التعامل مع واقع يرفض الجميع أن يعترفوا بأهميته وجديته، يتمثل في ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين يجدون أمامهم صفقة مضللة سعت لتغييب حقوقهم ومصالحهم.
تحملت دول الطوق تكلفة باهظة لعنتريات عربية، فقدت حس الواقعية والنفس الطويل في التعامل مع الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، وتمت شيطنة الأردن ولبنان أمام وعود عبد الناصر بالتخلص من إسرائيل، ووجبة الطعام التي كان يعدها إعلامه لأسماك المتوسط، ووجد لبنان نفسه يخوض في مزاجات عبد الناصر وحساباته في الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة، بينما خسر الأردن الضفة الغربية في مغامرة عسكرية لم يكن عبد الناصر مستعداً لها، ولم يتنازل بوضع الأردن في صورة حساباته في مرحلة مبكرة، تجنبه اختلالاً في تركيبته السياسية والسكانية.
تستند دول الطوق لخبرتها التاريخية في فارق الرؤية بينها وبين العواصم العربية البعيدة، وإصرارها على الاحتفاظ بخطوط مفتوحة مع الأمريكيين، يعبر عن مسافة التفاوت في الرؤية بين من يدفعون الثمن مباشرة وبدون إبطاء، ومن يبحثون عن مشاريع مستقبلية غير واضحة وغير مضمونة، ولذلك تصرف الأردن بصورة منفردة، وهو الأمر الذي واجهته محاولة مصرية وأخرى سعودية للتواصل مع الأردن من جديد، ويبدو أن المحاولتين لم تستطيعا أن تثنيا ملك الأردن عن المضي في جهوده العربية والدولية، من أجل استمرار مواجهة غير متكافئة مع الإدارة الأمريكية الحالية، وتواجد الملك على يسار أردوغان في الصورة التذكارية لاجتماع القمة الاسلامية الاستثنائي في اسطنبول، بينما كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس على يمين الرئيس التركي باسطنبول.
لم تخرج القمة تماماً بما أراده الأردن، فالحديث عن القدس الشرقية عاصمة لفلسطين لم يكن فقط ما يريده الأردنيون، مع أنه كان يرضي مرحلياً الرئيس الفلسطيني، فالأردن يتطلع اليوم إلى الضغط على الإدارة الأمريكية الحالية لتفويت فرصة استكمال «صفقة القرن» التي يمكن أن تدفع بالأردن إلى خيارات حرجة، ويبدو أن الأردن يتدارس اليوم أوضاعه العامة للدخول في دوامة الضغوط المعاكسة لحين الانتهاء من مرحلة الصخب التي تحرك ترامب، وتجعله يمارس سلوك المقامرة الكبرى في واشنطن، ولهجة الخارجية الأمريكية أخذت تتفاوت مع الرئيس الأمريكي في العديد من الملفات بعد إعلان القدس، واتضح ذلك من خلال التاريخ التقريبي الذي طرحه وزير الخارجية الأمريكي لنقل السفارة، ويقع بعد ثلاث سنوات على الأقل، أو بمعنى آخر بعد نهاية مرحلة ترامب، كما تشير الظروف السائدة، ومن المتوقع أن تتصاعد مشكلات ترامب على حالة من التربص الذي يشكله الديمقراطيون المنتشون بإسقاط المرشح الجمهوري في ولاية ألاباما، التي اعتبرت طويلاً معقلاً للجمهوريين.
الانحياز الأمريكي لإسرائيل أمر لا يقبل المناقشة، ومع ذلك، فالكثير من مراكز التأثير في الولايات المتحدة ترى أن خسارة الأردن لمجرد مناورة سياسية تخدم اليمين الإسرائيلي، تعبر عن انعدام في الرؤية، فالأردن الذي أبدى مرونة سابقاً في التعامل مع ملف أمني ثقيل، مثل الأوضاع على حدوده الشمالية وتقبل فكرة التعامل مع أي طرف، بما في ذلك دمشق لتأمين حدوده الشمالية، لا يمكن أن يتقبل تمرير قرار يمس باستقراره من الناحية الوجودية، ولو تسبب ذلك في انقلاب جذري في سياسة عمان الإقليمية والدولية.
مشكلة الأردن، ولبنان أيضاً، تتمثل في عدم وجود أية مؤشرات للتنبؤ بمدى قدرة اسرائيل على امتطاء فرصة وجود ترامب في البيت الأبيض، وإلى أي مرحلة يمكن أن يدفع اليمين الاسرائيلي بثقله لتحقيق المكتسبات في ملفات عالقة، من أجل تمرير الحل الذي يتصوره العقل المحدود للرئيس الأمريكي، فسياسته التي تعتمد على التأليب والبلطجة والفهلوة والتذاكي، من شأنها أن تجعله يكسب المنطقة أرضاً خصبة لمشروعه، وفي المقابل يخسر آسيا الوسطى التي يمكن تطويقها بتفاهم تركي – ايراني تحت رعاية تفاهم صيني – ايراني، وبذلك تنتفي قدرته على التأثير في آسيا ليجلب لنفسه متاعب جديدة.
أثبت الأردن طويلاً أنه جنب الدول العربية الكثير من الإحراج في ملف الصراع الذي كانت تحتاجه الأنظمة العربية وتتهرب منه في الوقت ذاته مع اسرائيل، وفي حال كانت المجموعة العربية تمتلك القدرة على الرؤية بعيدة المدى، فالأردن يمثل مصلحة للجميع، واستثماراً ناجحاً في المدى الطويل، وأن يترك الأردن وحده في معركة تمتد لتضرب عميقاً في عقيدته الوطنية، وأن يدخل ساحة التناقض باتفاقية سلام غير ناضجة وتحتوي على كثير من الاستعراض والقليل من المضمون، فذلك أمر لا يعبر عن حكمة، ولا يعكس أي رؤية، وإنما يترجم تفكيراً محدوداً وقاصراً وضعفاً في الخبرة في التعامل مع اسرائيل وقدرتها على تسويق الوعود الفارغة، التي يمكن للأردن أن يقدم عشرات الأدلة على مكرها وخوائها.
تفكيك آخر ما تبقى من نظرية الطوق، لا يكشف اسرائيل أمام العرب، ولكنه للأسف يترك العرب مكشوفين أمام اسرائيل، واسرائيل غير مهتمة بأن تحتفظ بماء الوجه لأي طرف مهما كانت التنازلات التي سيقدمها من أجل استرضائها، فتحويل طوق أزمات اللاجئين والمياه والحدود إلى مجرد طوق من الياسمين لن يشبع اسرائيل ولن يرضيها، وستقهقه مثل غانية لشريكها الأمريكي، بأن «لا شيء يستدعي انحناْك. ذاك طوق الياسمين».
كاتب أردني

إسرائيل وما تبقى من الطوق العربي

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية