الناصرة – «القدس العربي»: يكشف كتاب جديد كيف عملت إسرائيل بشكل منهجي على تغيير أسماء المواقع العربية في فلسطين فور احتلالها عام 1948، في إطار المعركة المفتوحة على الرواية والوعي، وهو يجابه ذلك من خلال جدول التسميات الأصلية استنادا لعدة مصادر أبرزها أفواه الفلسطينيين. لكن الكتاب يتمحور في قضاء طولكرم الذي بترت أجزاء منه في نكبة 1948، ولأهمية الفكرة حري بمؤلف الدراسة المؤرخ البروفسور مصطفى كبها توسيعها لتشمل بقية المناطق الفلسطينية نحو وضع موسوعة أو سلسلة جغرافية- تاريخية تحمي التسميات الأصلية للأماكن. وهذا ما يعد به المؤلف في مقدمته حيث يعتبر الكتاب حلقة في سلسلة من الكتب الهادفة لوضع الإطار التاريخي والجغرافي والاجتماعي واللغوي لتسميات الأماكن الفلسطينية وبالتالي استرجاعها وتوثيقها كما تم تداولها في الحيز العام والرواية الشفوية وكيفما تم توثيقها في الخرائط والمصادر التاريخية ومنشورات الاستكشاف العلمية.
والحديث عن كتاب صادر عن مجمع اللغة العربية داخل أراضي 48 بعنوان «لكل عين مشهد» تسميات الأماكن في القطاع الغربي لقضاء طولكرم الانتدابي، أبعاد لغوية وجغرافية وتاريخية واجتماعية». لا يتجاهل كبها المختص بالتاريخ الفلسطيني الحديث الدراسات العربية والأجنبية التي سبق وصدرت في هذا المضمار، فيعالجها برؤية نقدية ويبني عليها مستكملا إياها بمواد غنية تفصيلية منه. وهو يتركز في كتابه هذا في منطقة جغرافية محددة تتمثل بالقطاع الغربي لقضاء طولكرم الانتدابي التي ضمت في مايو/أيار 1949 لإسرائيل وفقا لاتفاقية رودوس بينها وبين الأردن التي حكمت الضفة الغربية بعد 1950 حتى 1967.
ويعلل الكاتب اختيار هذه المنطقة القريبة من مكان سكناه، قرية أم القطف،(ما يعطيه فرصة لمعرفة عميقة بالمكان) بالإشارة الى كونها إحدى المناطق التي مرت بتغييرات جذرية من ناحية التسميات المتداولة للأماكن والمواقع. ويعزو هذه التغييرات لتغييب من أطلق هذه التسميات نتيجة للنكبة والتهجير ولإقدام لجنة التسميات الحكومية الإسرائيلية (تلقت توجيهات مباشرة من رئيس الوزراء) على منحها تسميات جديدة ضمن مشروع تهويد المكان. كما يعلل الجهد الكبير المبذول هنا بالإشارة للقلة النسبية للأسماء المدونة في المصادر الرسمية مقارنة بالتسميات المتداولة على لسان العامة.
ويقدم الكتاب مساهمة توثيقية بالغة الأهمية من خلال عمل دؤوب يحاكي عمل النملة في جدولة تسمية الأماكن والمواقع وإرفاق شروحات جغرافية – تاريخية – لغوية دون إغفال سياقاتها الاجتماعية واللغوية، وذلك وفق ترتيب أبجدي. وبهذه الدراسة يساهم كبها بإحياء وإنقاذ آلاف التسميات الفلسطينية الأصلية من المحو والطمس. وهو بذلك لا بد أن ينطلق بذلك من مقولة إن من يملك رواية المكان يملكه وهذا ينطبق على دراسات مهمة سابقة له من أبرزها كتاب «سجل القادة والثوار والمتطوعين لثورة 1939-1936» الذي ألفه مع زميله المؤرخ الدكتور نمر سرحان في 2009.
ولذا يخلص كبها للقول إن التغيير في أسماء الواقع يتجسد من خلال استراتيجية عمل جيو- سياسية تعتمد على قاعدة أيديولوجية تسعى لإثبات حق امتلاك الحيز العام وتحديد معالمه وتحديد هوية من ينتمي له شعوريا من خلال تثبيت تسميات جديدة بالخرائط والمكاتبات والإعلام وغيره. ويكشف كبها في هذا السياق أنه حتى 2012 تمت عبرنة نحو 9000 اسم لمواقع ونقاط على الحيز العام المكاني العام في فلسطين التاريخية وتتجلى مساهمته في استرجاع ما تم طمسه وسرقته من الذاكرة الجمعية.
وفي التوطئة النظرية يتوقف كبها عند حيوية ذاكرة المكان بالنسبة للذاكرة الجمعية لأي شعب ولهويته الوطنية فما بالك والحديث يجري عن الحالة الفلسطينية التي ما زالت تشهد عمليات طمس إسرائيلية منهجية للمكان وهوية أصحابه. كما أن مثل هذه الدراسات مهمة للفلسطينيين في الشتات أيضا خاصة جيل الشباب المولود خارج فلسطين ولذا يستذكر كبها مساهمات آخرين في هذا المجال كـقسطنطين خمار في كتابه «جغرافية فلسطين المصورة» الذي ساهم في استحضار مشهدية مواقع الوطن لأبنائه المحرومين منه.
في الدراسة المضنية التي تحتاج زيارات ميدانية ومقاربات كثيرة للروايات الشفوية ومراجعة الأرشيفات والخرائط والدراسات المؤلفة منذ قرن في هذا المجال يستعرض الباحث التغييرات التي طرأت على توصيف قضاء طولكرم نتيجة تغييرات إدارية متلاحقة في الفترتين العثمانية والانتدابية في فلسطين.
ويراجع الكتاب أرشيفات لجنة التسميات الحكومية التي شكلتها إسرائيل في مطلع خمسينيات القرن الماضي لوضع تسميات بديلة للتسميات الفلسطينية، وذلك ضمن المعركة على الرواية والوعي لدى اليهود والعرب على حد سواء.
يشار هنا الى أن الكثير من الباحثين الإسرائيليين في هذا المجال تجاهلوا حقيقة دوافع وأفعال هذه اللجنة عدا قلة قليلة أبرزها باحثة إسرائيلية تدعى نوغا كادمان التي فضحت ما قامت به هذه اللجنة في كتاب مهم بعنوان «على جوانب الطرقات وفي هوامش الوعي». في كتابها المرجعي الريادي باللغة العبرية من عام 2008 استعرضت كادمان كيف تم محو مئات القرى الفلسطينية المدمرة من خرائط إسرائيل علاوة على فضح تكتيكات لجنة التسميات الحكومية في اختراع تسميات يهودية بديلة للأماكن ضمن «تطهير عرقي لغوي».
ولا يكتفي كبها بقرارات لجنة التسميات الحكومية هذه فيطلع القراء أيضا على التوجهات والخلافات بين أعضائها في أساليب عملهم ومواقفهم من مسألة مدى تجاهل وطمس التسميات الفلسطينية للمكان في قضاء طولكرم الانتدابي، وفي بقية أنحاء الوطن الفلسطيني. ويستدل من دفاتر لجنة التسميات هذه اعتماد عدة أساليب وأنماط في تغييب الأسماء العربية واستبدالها بأخرى عبرية. ويوجزها الكتاب بثلاثة أنماط، الأولى ترجمة الأسماء العربية للعبرية بشكل تام، فمثلا استبدل موقع «عين الوردات « بتسمية عبرية «عين فيرد» و «خربة الحية» بـ «عين حاي» وهكذا ورثت مدينة كفار سابا الإسرائيلية تسميتها من قرية فلسطينية مدمرة بمحاذاتها وتحمل الاسم نفسه تماما وما زالت بعض عماراتها قائمة لليوم.
أما النمط الثاني فيقضي بعبرنة أسماء المواقع بتغيير المعنى والحفاظ على النغمة الصوتية. ويبدو أن الهدف غير المعلن من ذلك الزعم أن اليهود كانوا هنا في هذا الموقع ولهم تسمياتهم المشابهة لتسميات الفلسطينيين. من ذلك مثلا تغيير اسم «خربة الجزيرة» بـ «خربة جزرة» أو وادي الفالق فسمي بالعبرية «بوليغ». بهذا الشكل تمت صياغة اسم جديد حافظ على النغمة الصوتية لكن تم قطعه عن السياق اللغوي والتاريخي والحضاري للاسم الأصلي كما يؤكد الباحث.
أما النمط الثالث وهو الأكثر شيوعا فيقضي بمحو التسمية الفلسطينية بالكامل وابتكار تسمية عبرية للمكان مثل «نوف يام» الذي حل مكان اسم قرية «الحرم- سيدنا علي»، شمال تل أبيب أو «شيكون سيلع» بدلا من «أم خالد» التي صارت حيا في مدينة نتانيا. طبعا الدراسة لا تكتفي بأسماء البلدات في قضاء طولكرم بل تطال مئات أسماء المواقع فيها من أراض وآبار، وعيون، وبيارات، ومروج، وأودية وأنهار وحصون تاريخية الخ. ويقدم شروحات عن كل منها فيقول على سبيل المثال إن «بصّة ج» المجاورة لقرية قاقون المدمرة تعني بصة ماء وكانت بملكية عائلة شوربجي وكانت فيها كذلك أرض مشاع لكافة أهالي البلد.
كذلك يقول الكتاب إن»بيارة البنا» كانت تقع شرق قرية مسكة المهجرة وكانت بملكية عائلة البنا من يافا خاصة الحاج خليل البنا (والد صبري البنا المعروف أكثر باسم أبو نضال) الذي حفر فيها بئرا وأقام على الطريق العام سبيلا سمي بـ «سبيل البنا». أما «عيون القصب» فتقع داخل وادي الحوارث وهي مجموعة عيون جنوب وادي اسكندر شمال قرية القباني المهجرة وقريبا منها أقيمت مستوطنة «هعوغن» والاسم منسوب لنبتة القصب المائية التي تنمو هناك بكثرة. ووادي اسكندر يعرف أيضا (أحد مقاطعه) على لسان العامة بوادي الشعير أو نهر اسكندرونة ونهر أبو زابورة (على اسم عائلة أبو زابورة التي استخدمته لنقل محاصيل البطيخ بواسطة القوارب الصغيرة من وادي الحوارث حتى ميناء أبو زابورة لينقل لاحقا بالسفن للتصدير إلى مصر ولبنان) وينبع من جبال نابلس ويصب بالبحر الأبيض المتوسط. لكن النهر الأكبر في المنطقة هو نهر العوجا النابع من منطقة راس العين وكفر قاسم ويصب في البحر الأبيض المتوسط قريبا من يافا ويسمى أيضا بنهر الجريشة أو نهر الطواحين أو نهر يافا وبات يعرف بالتسمية العبرية «نهر اليركون». ويتوقف الكتاب عند نهرين آخرين ينبعان من جبال نابلس هما نهر الفالق ( « بوليغ « بالعبرية ) ويصب جنوب نتانيا ونهر المفجر ويصب شمال الخضيرة بمحاذاة قرية المفجر المهجرة وعلى أنقاضها قامت محطة توليد الكهرباء الإسرائيلية، ويسمى أيضا بالوادي الأخضر ووادي الخضيرة وتعود تسمية المفجر للينابيع المتفجرة في الوادي من باطن الأرض. كذلك «وادي السوس» شمال بلدة باقة الغربية وتسميته مستمدة من نبتة « العرق سوس» التي يصنع من جذورها شراب «عرقسوس».
ويتقدم الكتاب نحو مناطق أخرى للتدليل على عمل اللجنة فيقول على سبيل المثال إنها بحثت في 29 مارس/ آذار 1953 احتجاج سكان مستوطنة بنيت بجوار مدينة الناصرة وسميت « نتسيرت عليت « وذلك لأنها تسميتها العبرية ترجمت للعربية « الناصرة العليا «. كما ناقشت اللجنة بذات الجلسة كيفية نقل الأسماء العربية بحال تم إقرارها.
وفي سياق الحديث عن بعض الباحثين الإسرائيليين القلائل جدا الذين غردوا خارج السرب الصهيوني على غرار منظمة «ذاكرات» المختصة باستحضار الرواية التاريخية الفلسطينية، يذكر كبها المؤرخ ميرون بينبينشتي الذي يتحدث في كتابه «المشهد المقدس» عن أهمية الخريطة في استرجاع المشهد الفلسطيني المهدوم نتيجة النكبة: «ما كنت أستطيع أن أفعل أي شيء لولا الخرائط المفصلة العظيمة التي أنجزتها سلطات الانتداب وتم تحديثها قبيل حرب 1948. كنت أفتح الخريطة المعنية على الأرض وفجأة كان المشهد القديم يبرز شامخا مثل خيال: بيوت القرية والمسجد والمدرسة والطرق وقبور الأولياء وأشجار البلوط المقدسة وعيون الماء والمغر، وأشجار الفاكهة والقطع المحروثة ولكل منها اسمه العربي مسجل على الخريطة».
وديع عواودة: