قرأت عن بحث طبي أجراه علماء نفس وأطباء ألمان (في جامعة التكنولوجيا في برلين) منذ سنتين يقول إن هناك حياةً بعد الموت، وإن الوعي يظل «يقظا» حتى بعد أن يتوقف عمل الدماغ، وإن هذه الفكرة الرائجة ما ورائيا يُمكن إثباتها مخبريا.
هذه التجربة أجريت على من يدخلون في حالة «الموت الوشيك المُراقب» لمدة عشرين دقيقة قبل أن يُعادوا إلى الحياة وشملت الدراسة أكثر من 900 حالة.
لن ننصرف إلى الجدل الذي يمكن أن يُثيره هذا الخبر عن وجود حياة أخرى بعد الموت لكننا سننظر إلى جزء من الخبر يتعلق بسماع من أجريت عليهم التجربة كلاما يقال لهم: كأن يقول أحد الأطباء المباشرين: «لقد مات». هذا الخبر يبدو مبلبلا لفكرة النظام الواعي للغة ولمعالجة الذهن الحي لها، وهذا ما اتفقت عليه جميع النظريات العرفانية الحديثة، وعرجت عليه من غير قصد كثير من أفكار القدامى حول معقولية اللغة.
الحديث عن لغة ما بعد الموت ليس شيئا جديدا في التراث العربي الإسلامي؛ لكنه حديث تكتنفه الأسطورية والمواقف الانفعالية من لغة الضاد، وبأنها أفضل اللغات.فابن منظور صاحب لسان العرب مثلا يعتقد أن أهل الجنان يتكلمون العربية فكأنها لغة يُثاب بها الفائزون بالرضوان. فما هي لغة أهل النار؟ لن يَعدم من يفكر بهذه الطريقة جوابا فسيسمي لك ألف لغة «شيطانية» كان القدامى يبوبونها تحت اسم جامع هو « الأعجمية» وتعني لغة تحمل جميع السمات السالبة المقابلة للعربية فهي لغة لا تبين ولا تفصح، وليس لها نظام مُسْتَوٍ وهي بليدة على الذهن مرهقة للسان.
وما من شك في أن جعل أهل الجنان يتكلمون العربية (الفصحى بالذات) داخلٌ في ضرب من «تأميم» الجنة. إذ صارت العربية بهذه الحالة لغة المؤسسات الخلافية والنصوص الراقية والمقدسة. ستعيش اللغة وهي في الجنان على لسان أهل الجنة الطيبين في صَلَفِها الصحراوي الأول وفي بذخها المدني بعد الفتوح، تماما كما صورها أبو العلاء المعري في رسالة الغفران: كانت جنة للشعراء والأدباء وكان «أهل الجنة أذكياء لا يخالطهم الأغبياء».
لكن قراءة لغة ما بعد الموت في ظل الخبر العلمي أعلاه من شأنها أن تعقد التفاسير الوضعية الحديثة جميعها، بما أن الدماغ يكون في وضعية تشبه وضعية إغلاق الكمبيوتر بفصله عن روابطه الكهربائية التي تشغله.
ليس جديدا على اللسانيين من ذوي الاتجاه العرفاني قياس عمل الدماغ على الحاسوب الرقمي، أي قياس التفكير على الحَوْسَبَة بعد أن دفعهم إلى ذلك ألان تورنغ منذ الخمسينيات في مقاله الشهير عن الحوسبة الآلية والذكاء. وكان شمسكي قد تعامل مع التركيب (الإعراب) على أنه مرادف في معالجته للحساب، طالما أن الدماغ يعمل بشكل صُوري في جوهره. هل يمكن أن تُعطل نتيجة الأطباء وعلماء النفس الألمان هذا القياس في تصور عمل اللغة؟ هذا هو السؤال الذي يمكن أن يشغل اللساني العرفاني. وأنا قبل أن أواصل لست معنيا بالجواب بالنفي أو الإثبات، بل بالتفكير في نطاق ما يطرحه الإشكال الذي صيغ بطريقة قلقة لا تتناسب لا مع رُوح التفكير الحوْسبي في اللغة، ولا مع مشاغل الأطباء الذي قضوا سنوات في الاختبار حتى يصلوا إلى نتيجة أن هناك حياة بعد الموت، أو قل أن هناك موتا بين الحياتيْن.
سنفترض أن هذا الميت المؤقت يسمع الأطباء يتكلمون وسنسلم أنه بعد استفاقته من ميتته تلك «تذكر» أن الطبيب قال: «لقد مات». هناك إشكال أولي في هذا التوصيف يتمثل في «تخريب» معنى «تذكر» فهي لا تعني تذكر الحي ما خزنه من كلمات في ذاكرته الحافظة، بل يصبح فعل التذكر محمولا على المجاز، إذْ كيف ستشتغل الذاكرة الحافظة والمحرك بأكمله، أي الذهن في سُبات وتوقف عن الاشتغال مؤقت.
ما الذي يؤمن الوعي بجملة «لقد مات» بعد الموت إن لم يكن الذهن؟ لنفترض أن هناك في الجسم الميت المؤقت ما يشبه في الطائرة المحرك الثاني الذي إذا تعطل الأول اشتغل هو. لكن ما تراه يكون هذا المحرك الذهني الثاني؟ وأين ينبت وما علاقته بالذهن العامل بالحياة؟ ثم إذا استقامت استعارة المحرك الثاني هل تراه يكون كما في محرك الطائرة مطابقا للمحرك الأول أي أنه قياسا على ذلك دماغ جديد؟ وإن صدقنا بالتمييز الذي يُجريه بعض العرفانيين بين «الدماغ» بما هو مكون فيسيولوجي و»الذهن» بما هو مكون وظيفي: أن الذهن هو نتاج عمل الدماغ، فكيف يمكن أن نقول عن فهم الميت المؤقت؟ هل توقف الدماغ وظل وجه وظيفي منه يشتغل؟ أم أن الذهن قد استوعب الموت المؤقت على أنه موت مؤقت فلم يمت، بل تماوت تماما كما تتماوت بعض الحيوانات للنجاة من حيوانات أكثر توحشا؟
ولو فرضنا أن ذهن الموت المؤقت يشتغل بآلية ما تكون مخالفة لآلية اشتغال ذهن الحياة العادي، فكيف له وهو الذي يشتغل بذلك الشكل المختلف أن يفهم قول الطبيب: «لقد مات» كما فهم الذهن العادي ويتذكرها. وإن فهمها بطريقته سيكون لها معنى آخر ينخرط في نظام دلالي آخر سنفترض أنها ستعني عندئذ: «إلى اللقاء». سيحتفظ الذهن بهذه الكلمة وبمعناها، وحين يسلم القيادة الإدراكية للذهن الرسمي سيسكبها في صندوقه الأسود وسيترجمها الذهن العادي إلى اللغة العادية، وسيفهمها بالاسترجاع: أنها كانت تعني إذ نُطقت ساعتها إعلانا عن الموت لا تواعدا باللقاء. هذا الافتراض يقتضي أن بين ذهن الموت المؤقت وذهن الحياة العادي ما يسمى بالتقاطع، أي جبهة مشتركة لا تنتمي إلى أي من الذهنين، بل هي نقطة عبور للمعالجة فيها تُنقل المعلومات جيئة وذهابا بين الذهن الميت المؤقت والذهن البديل. ويؤمن هذا التقاطع الذهني ككل تقاطع الترابط الحيوي بين الذهنين، ترابطا يسلم إليه الذهن الميت مؤقتا العمل قبل أن يُوقَف عن العمل مؤقتا.
«لقد مات» كلامٌ يتذكره الراجعون إلى الحياة يُسعفهم به دماغُهم الراجع أيضا إلى العمل عن حقبة موتهم المؤقت؛ حقبة قالت عنها الدراسة إن من عادوا منها اتفقوا على سرد ذكريات اشتركوا فيها هي الشعور بانفصالهم عن أجسامهم (فمن يكونون عندئذ؟) وكأن تلك الأجسام ترتفع في إطار إحساس بالصفاء التام والدفء ووجود ضوء باهر..
لكنْ كيف تدرك جملة: «لقد مات» في هذا الجو الشعوري من الخفة والصفاء والبُهْر؟ أليس معناها الأول غير مناسب لهذا» المقام»؟ بالمنطق العادي لا يمكن أن ينسجم ذلك الشعور إلا إذا كان لجملة «لقد مات» ترجمة أخرى تنم عن الخفة والسعادة والضياء. حتى يتناسب الفهم مع الحالة التي تشبه بعض مقامات الصوفية يمكن أن تعني «لقد مات» في لغة الأموات الذين هم على قاب الموت «لقد ولد». لكن ما معنى «لقد وُلد» في ذلك الملكوت الذي تسمع فيه جملة: «لقد مات؟»
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
توفيق قريرة
تحياتي لمقامك المحمود أستاذ توفيق : حسنًا قد كتبت عن ( سيمياء الموت ).ولأنّ كتاب العربية الأكبردائمًا هوالقرآن ؛ أشيرإلى أنّ لفظ : الموت والموتى وبأشكالها الإعرابية…قد ورد في المصحف ( 56 ) مرّة.راجع : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ؛ للسيد محمد سعيد اللحام.أتعلم أنّ أغلب معاني ودلالات ( الموت ) في القرآن لا تعني الموت بمعنى انقطاع نبض الحياة وخروج الرّوح كما هوماثل للعيان…؟
بل أغلب معاني ودلالات لفظ الموت في القرآن تعني : الفقر: المادي أوالنفسي.ومنها على سبيل المثال : { وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أنْ يأتي أحدكم الموت }(المنافقون 10 ).الموت أي الفقر.وغالبًا ما يردفها بالأمل والحياة كي تبقى الصلة مع الله الحيّ القيّوم ؛ لا تزول.
وهذا أنما من رحمته على العباد.والسبب ياسيدي أنّ القرآن منهج حياة للإنسان من ذكروأنثى.ومسؤولية وظيفته في الحياة الدنيا حيث يعيش الإنسان في كلّ مكان.فالقرآن معنيّ بمسؤولية وسلوك الفرد في هذه الحياة.أما بعدها فهذا عالم الغيب ؛ الإنسان ( فيه ) خارج قانون الحياة والحركة في الأرض.لذلك لغة ما بعد الموت ؛ لغة مجازية لا لغة حقيقية بالمعنى المتداول من اللغة.أما الموت بالمفهوم الذي تناولته فهو
موت فيزيائي وكيميائي معًا…وهونهاية للفرد حتى يوم البعث في الآخرة ؛ لذلك سمّي الموت ( الحقيقي ) بالقيامة.وعلى تعدد التخريجات
القيامة للموت بمعنى العدل من القوام.لأنّ الموت على الجميع حتى الأنبياء ؛ فهوعدل الله على الخلق من دون تفريق بين مؤمن وغيرمؤمن.
صدقني يادكتور توفيق لقد امتعتني بروعة هذا المقال الذي اخرجني ظرفيا من رداءة ما نعايشه من اخبار واقوال وافكار تنسب الى العقل على سبيل التجوز…والاولى والادق ان تكون نسبتها الى اية الية افرازية تنزل الى الاسفل ولاتعلو بتاتا…!!!! . واعدتني ايضا الى الصورة الناصعة للجامعة التونسية التي كانت تشراب اليها اعناق الطلبة والباحثين من مختلف الاصقاع بناء على سمعة طيبة بنتها ارادة عصامية لجيل من الرواد…وخاصة في مجال الطب والدراسات اللغوية والادبية…، واما بالنسبة الى صلب الموضوع..فالمعروف ان علاقة الفكر باللغة…وكونها مكونا له او وسيلة فقط..كانت مجال بحوث كثيرة في القديم والحديث..وارتبطت كاشكاليات بمذاهب ومدارس فلسفية وفكرية مختلفة …ومنها على سبيل المثال المدرسة الرواقية التي اهتمت بموضوع التقنين الاصطلاحي …والاستدلال على روحانية اللغة باعتبارها تنتمي الى ما يسمى بمدلول الكلام وهو طور يتجسد في اللغة المنطوقة في النطاق المادي ولكنه لايرتبط به عضويا…على اعتبار ان مصدره سياقات معنوية او روحية لايستوعبها التاطير اللفظي في جانبه الخارجي….وتعود الى النفس بمفهومها الروحاني..، ولم يخرج اهتمام المسلمين عن هذا التصور اجمالا..خاصة في مجال اعلاءهم من شان العربية…؛ حيث كان الدافع هو عدم حصر كيان اللفظ المعبر عن ارادة الخالق في المعاني المجسدة على سبيل الاستعمال والتداول او التواصل الفكري والعادي…، والايحاء بمصدره المتعالي علي سبيل الرجوع الى ما يتجاوز النسبي والمتغير على مستوى الارادة الازلية التي اختارت ان يكون خطابها الخاتم بهذه اللغة اعتبارا وتمييزا …وبطبيعة الحال لم يكن القصد موجها الى الاشكال والاساليب على علاتها وكنه كان مستهدفا لكل ماينم عن الارتقاء الدلالي الذي يعكس روحانية النفس والعقل …ومحدودية اهمية الجسد والمجسد….وشكرا.
مقالك رائع في تسطيح الافتراضيات بمناقشة تعبير “لقد مات” لم يستطع العلم التجريبي والفلسفي واقعيا الاجابة عنه. واقعيا ناقش القرءآن الكريم هذا المصطلح بلأبعاده الواقعية والعملية والافتراظية قبل الولادة ثم وجود الحياة ثم الموت المادي والمعنوي ومابعده.في يوم الحساب. فمركز نبض الحياة هي الروح فهل استطاع العلم الحديث الاحاطة بها؟ فهي مركز نبض الوجود الانساني في حدود الزمن المُبرمج لها من خالقها!؟ فهل مقامات الصوفية إفتراضات تفسيرية مستنبطة من نصوص القرءآن الكريم لتفسير ظواهر رحلة الوجود الانساني في بحر انبثاق الحياة لزمن محدد لشخص ما ثم السفر الى الموث المادي العيني بكل ظواهره…؟ أما الجو الشعوري بكل أبعاده المادية والمعنوية والمعيارية والتاويلية والماورائية لها تفسيرات لا اجد ضفاف بحر لها سوى التفسيرات المرتبطة بين “كُلُ نَفْسٍ ذائِقَةٌ المَوتْ ونَبْلوَكُمْ بالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةٌ”35 ك الأنبياء21. فنحن البشر واقعون بين قوانين في ذواتنا بأبعادها ومُحيطنا المحسوس والملموس والماورائي بإقتناص التفسيرات لكُنهِ وجودنا المادي وما ورائه وجودا يقع بين الادراك وما فوقه.فللعلم تفسيراته لظواهر وجودنا الانساني ووالكوني بكل أبعاده. ولكن”وما أؤتيتم مِنَ العِلْم إلا قليلا” ومع قِلَّته فنحن نسبح في فضاءآت لا متناهية. “وكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُوْنْ” فتُعجبني سباحتك وسياحتك أستاذ اللسانيات. طِبْتَ وقتاً وعِلماً.ولديَّ الكثير غوصا فيه فكفاية تحياتي.
ان مركز مقالك يتأطر: حول معقولية اللغة ما بعد الموت فلعل هذا النص في سورة القصص يوضح جزءا من مناقشة اللغة ما بعد الموت في مقالك. قال تعالى” وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ” سورة القصص 59. هذا النص يتضمن اربع مقاطع يتعلق باللغة والموت أي مهلك القرى حتى يبعث في امها رسولا يتلو عليهم آياتنا أي لغة ذلك القوم وعالمنا الحالى يضم لغات عديدة ولغة العِلم واحدة ومستويات الفهم متعددة وسلوكيات البشر مختلفة فالهلاك أي الموت مرتبك بالظلم؛ فللظلم لغة يعرفها البشر فيما بينهم فربط لغة ما بعد الموت مرتبك بلغة ما قبل الموت سلوكيا أي بلغة الحق والعدل وتقوى الله في المعاملات فهذه لغة الحياة في الانسان الانسان مع الانسان بإطار الايمان بالله. هذا جانب ضئيل في التحليل لموضع شائك تنسحب فيه تيارات متداخلة في التناول والتحليل بنقاش يحمل ابعاد عديدة بضفاف تاويلات مُتناقضة كتناقض إيمان البشر وسلوكهم حول وجودهم المادي وما بعد الموت. هذا خاطرة ماطرة. أمل سماعك إياها. اما لغة التبليغ ما بعد الموت فيحضرنى هذا النص: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴿٦﴾ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴿٧﴾من سورة الاعلى.فههنا الخطاب للنبي ولمن يتبعه ثم يأتي الاستثناء الى لغة اجهار الانسان ولغة إخفاءه ما في نواياه البعيدة والقريبة المُنثاله بسلوكه في الاعتقاد والمعاملات كترجمة للحياة ولما بعد الحياة للموت لغة تكون منبثقة من لغة الحياة فيأتي معه سائق وشهيد. بعد الموت.
الاخ د. سامي عبد الستار الشيخلي سويسرا
تحية لك ان ما يقوله العلم هو فقط ما نستطيع تقبله كعلم اما ما تقوله الاديان كلها فنقبله كامور غيبية نؤمن بها ولكننا لا نستطيع اثباتها وان اختلف الدين مع العلم علينا تصديق العلم في حينه الى ان يثبت عكس ذلك