باريس ـ «القدس العربي» من سليم البيك: الفيلم ساخر وبحوارات ذكيّة تحتاج المتابعة والربط أحياناً لإدراك ـ ربّما ـ معانيها، هنالك معانٍ داخلية، هنالك إحالات وهنالك مضامين يمكن أن تصل حد الفلسفة، إنّما بعبارات ومواضيع تكون مباشرة، هي سطحية ويومية، بمعنى أنّها أحاديث تجري في بار بين مرتاديه المألوفين، في البلدة الصغيرة في الغرب الأمريكي،
حيث الكل يعرف بعضه، وحيث الجميع يعرف أين الجميع يسكن. ولعلّ حالة كهذه: المضامين الفلسفية ذات «الأسئلة الكبرى» والأحاديث السطحية والبادية كالعفوية في البار والمقهى، كانت بحاجة لشخصية كبطل هذا الفيلم، «لَكي» (محظوظ) الذي طبع الفيلمَ بطابعه، بميزات شخصيته الفريدة، «لَكي» الذي يمضي الوقت بين مشاهدة البرامج التلفزيونية، تلك المسابقات التي تقوم على المعلومات العامة التي لا فائدة مرجوّة منها غير المشاركة في برامج كهذه، حيث يخرج الفائز بحقيبة من المال، كما أنّه «لَكي» يمضي مساءه في البار، وصباحه في المقهى، يسلك الطريق ذاته، من وإلى هذه الأمكنة، يشتم هنا ويتذمّر هناك، ودائماً يتصدى لكل من ذمّ الوحدة، مؤكّداً، حسب القاموس، أن يكون المرء وحده (alone) لا يعني أن يكون وحيداً (lonely)، كما أن كلمة «وحده» تعني «الكل» و»واحد» (all + one)، معطياً تفسيراً لغوياً لوحدته، بدون أن يعني ذلك أنّ اللغة مرجعاً حيوياً له، ففي المشاهد الباكرة من الفيلم، نراه يحل الكلمات المتقاطعة، وهي من هواياته كذلك إضافة إلى تلك البرامج، وهي كذلك من المسابقات أو الألعاب التي يمكن أن يوظّف فيها أحدهم معرفة سطحية لغايات غير مجدية. نراه ينهض ويبحث في المعجم عن معنى «الواقعية» (realism) لنجده لاحقاً في البار يلقي على مسامع مرتاديه، وهم أصدقاؤه، المعنى المعجمي لهذه الكلمة، وقد حفظه غيباً بدون إدراك منه للمعنى، وهو في حياته النّقيض تماماً من الواقعية، هو العدمي والكلبيّ والساخر من كل ما حوله، بدءاً بصحّته عند الطبيب وليس انتهاءً بغريب يجلس في البار. و»لَكي» اكتشف في وقت سابق من النهار أن «الواقعية» «شيء ما»، ما يعني أنّ معاني الكلمات عنده ليست أكثر من كلمات أخرى مرتّبة بجانب بعضها لتشكّل المعنى بدون أن يدرك ما هو خلف هذه الكلمات أو خلف هذا المعنى أو الشرح المعجمي، فالحياة عنده لا تتعدى المعرفة السطحية للأشياء (التي لا بد أن تكون ملموسة)، المعرفة المباشرة التي لا وظيفة أخرى لها غير معرفتها، أو لا جدوى من استخدامها غير التلفظ بها وبمعناها والإظهار بأنّه عارف بها.
من هنا يمكن القول إن ليس في الفيلم حكاية ما، إنّما تصوير لأيام قليلة من حياة «لَكي»، الحياة المملة والرتيبة والمتكرّرة، له ولمعارفه من باقي أهالي البلدة الصحراويّة المعزولة عمّا خارجها. ومن هنا يمكن إدراك التوافه التي يحكي بها هؤلاء، من فقدان سلحفاة اسمها «الرئيس روزفلت» (وقد فقدها صديق لَكي، بدور أدّاه ديفيد لينش) إلى حديث «لَكي» مع البائعة/الجارة، وهي «توافه» لطيفة وودية لأهالي بلدة واحد وصغيرة. لا حكاية للبطل هنا، بل يوميات يحاول الإسراع ببعضها كي يلحق البرنامج التلفزيوني، يوميات تتكرر وأصدقاء يلتقي بهم كل مساء، توافه بالمواضيع إنّما منقولة بسيناريو ذكيّ يحتاج القليل من التدقيق من قبل المُشاهد كي يحيله إلى فلسفة ما، فلسفة تشبه «لَكي» العدميّ والسّاخر من كل ما حوله.
الفيلم، Lucky، من إخراج الأمريكي جون كارول لينش، وأدى البطولة فيه هادي دين ستانتون، في أحد آخر أدواره، قبل وفاته في شهر سبتمبر/أيلول الفائت. والفيلم اعتمد بشكل أساسي على ستانتون الذي قدّم أداء لافتاً: النّظرة منه، والكلمة، في سياقها وطبيعتها، كانت فعلاً كوميدياً.
لَكي في عمر 90 عاماً، يمارس اليوغا كل صباح، يدخّن كثيراً ويشرب القهوة، حالته الصّحية بالنسبة للطبيب، ممتازة، مشكلته هي فقط أنّه يكبر. و«لَكي» ملحد، الكلمات لديه تُوجد إن كانت «أشياء»، كما هو حال «الواقعية»، ويقاوم آثار العمر من خلال السخرية وتكرار روتينه اليومي من اليوغا صباحاً حتى البار مساء، يكرّره منذ سنوات، بدون أن يقتنع أنّ تقدّمه في العمر قد يوهن من نشاطه أو قدرته على الممارسات اليومية التي تعوّد عليها منذ سنين. على طول الفيلم يعيش المُشاهد مع «لَكي»، مع صبره وجلده وردود فعله الساخرة، بدون أن تتطور شخصيته بالضرورة أو أن يعيش حكاية خارج روتينه.
الفيلم هو الأوّل للممثل الأمريكي جون كارول لينش. شارك «لَكي» في مهرجانات من بينها لوكارنو في دورته الأخيرة، ويُعرض حالياً في الصالات الفرنسية.