الأردن: ورم سياسي وأنيميا اقتصادية

لا بد من الإقرار أن التعاطي مع التحديات الحساسة التي تواجه الأردن والأردنيين هذه الأيام يستوجب التوقف التام عن ثقافة الانكار وتدشين توجه وطني بعنوان «طاقم مختلف»، يدير مفاوضات مصالح البلاد بطريقة خبيرة ومهارة مسؤولة ويعالج «أزمة الأدوات».
دون وقبل ذلك لا مجال للتحدث عن مشروعات وخطط طارئة لتأمين مصالح الأردنيين وسهرهم الشغوف على دولتهم ومشروعهم في الصمود وسط الموج المتلاطم في الإقليم.
الوضع الأردني ليس منغلقا على الخيارات ولا كارثيا ولا معقدا جدا كما يشيع بعضهم.
والوطن والدولة لا يخدمهما اليوم التذمر وإشاعة السلبية، لأننا نتحدث هنا عن دولة عميقة خبيرة، وعن شعب واجه الأزمات في الماضي، وعن قيادة تجاوزت سؤال الشرعية، ولديها من الحب الشعبي ما يفيض، ومن الخبرة ما هو ضروري للمناورة والمبادرة.
أوراق قوة الأردن في هذه الأيام الصعبة في شعبه المتماسك العروبي النابض بالولاء القومي، وفي منظومة القيم والتقاليد الاجتماعية الصلبة الضابطة لأي اندفاعات، ووجود نخبة من خيرة الخيرة تسهر على أمن الأردنيين وتوفر بنية تشريعات وقوانين تضبط العلاقة بين الفرد والمؤسسات، وتنظم الفارق والهامش بين الحقوق والواجبات.
نعم؛ الأردنيون اليوم لا يملكون إلا الالتفاف حول دولتهم وهُويتهم التي تمثلها هذه الدولة.
لكن السؤال هو: هل تسمح القوة المستحكمة اليوم في نخبة إدارة الدولة للأردني بالتعبير عن ولائه ومشاعره وسعيه للمزيد من الصبر والأداء المنضبط؟
هل تترك شبكة نخبة المصالح للنظام وللشعب فرصة «التصالح» الاجتماعي السياسي الوطني، ضمن رؤية أشمل تتعامل مع الحاضر المعقّد بعيدا عن اجتهادات الحكومات وكسل الحلقات الوسيطة ومصالح النافذين التي طالما تم تقديمها على متطلبات الوطن؟
مرة أخرى الوضع صعب ومعقد ويتطلب الحذر من الجميع. ومرة أخرى لا بد من افتراض حسن النوايا وإظهار قدر من الثقة بالمؤسسات وقدراتها على أن تجتهد تلك الحلقات التي لا تسير بلياقة النظام والدولة نفسها، فتنفض الغبار والتكلس عن ملفاتها وتخوض مع الشارع في لعبة قواعد جديدة على أساس النظافة والنزاهة.
ورقة الأردنيين اليوم لمواجهة التحديات تشمل الإعلاء من قيمة القانون ومحاصرة أي تنمر على المؤسسات والتعامل تحديدا مع الضائقة الاقتصادية بقدر كبير من الرشد والعقلانية التي ينبغي أن تطال الجميع من القمة للقاعدة.
ليس سرًا أن تلك الأدوات الخشنة في مواجهة الواقع لا تكفي إطلاقًا، لأن الأردني الطيّب منح النخبة عشرات الفرص، وصبر كأيوب على الأوضاع والقرارات والاتجاهات الخطأ، ولا بد أن نعود للجملة الافتتاحية قبل أي خطاب، وهي بلا شك تكمن في عبارة من وزن «أزمة الأدوات» حيث أداء مراهق ومجازف وخيارات يقر الجميع الآن أنها خالية من «الموهبة والخيال» وتفتقر للقدرة على التفاوض ومهارة التحصيل الإيجابي للمكاسب.
عدد كبير من مسؤولي ورموز المرحلة الحالية «شطار» من دون احتراف يجيدون اللف والدوران والمراوغة، وينفعلون أكثر مما يظهرون ردّات فعل منتجة والقطيعة واضحة جدا بينهم وبين الناس.
التجربة اليوم وبصراحة قد تتطلب تشكيل خلايا أزمة حقيقية لديها مصداقية تدير الملفات والعودة لمبدأ وجوهر «الولاية العامة» ووقف كل عمليات التدخل في خيارات الناس والعبث في الانتخابات.
التجربة تتطلب التصدي للورم السياسي النخبوي السرطاني، الذي أنتج طبقة قوية من الانتهازيين على قاعدة شعبية يعرفها كل من عمل في تجارة المواشي.. «كثير النط.. قليل الحيلة».
وتتطلب الاستدراك في مخاطبة مخاوف الفساد التي ذكرني أمس الأول فقط صديق بعبارتي التي تخصها حيث الإكثار من الشعارات في مقاومة الفساد من دون وضع حد له «يسحب من رصيد النظام» ويهدد الاستقرار العام والاجتماعي ودولة سيادة القانون.
أتجول يوميًا بين عشرات الأردنيين البسطاء وأستمع لإيقاع الشارع وأتلّمس بيدي تلك الحاجة الملحّة للصدق والمصارحة في التعامل مع المواطنين قبل الحديث عن أي مصالحات يمكن أن تقود لتفاهمات استراتيجية عميقة بين الناس ودولتهم.
الحاجة ملحّة لإعادة الذين صنّفوا في الماضي في إطار المعارضة والرأي الآخر والديناصورات كلهم والأقل حظّا والأكثر كفاءة إلى «حديقة الوطن» حيث لا ضرر من وجود حديقتين في المنزل الوطني نفسه، واحدة أمامية والأخرى خلفية، وظيفتها ليس التسحيج والتصفيق، بل انتاج المزيد من الخيارات الاستراتيجية بين يدي القيادة.
الفرصة مناسبة اليوم لاستذكار مقولة مخضرم محنك من وزن زيد الرفاعي وهو يقول: إن ترك أي قيادة في أحضان خيار استراتيجي واحد في أي قضية مهمة سلوك فيه خلل قد يصل إلى مستوى الخيانة.
نعم؛ يحتاج الأردن اليوم لخيارات استراتيجية متعددة وبدائل، تلبية هذا الاحتياج الوطني الواقعي الممكن تتطلب بدورها بعد الإقرار بأزمة الأدوات الاسترسال في معالجة هذه الأزمة، بعيدًا عن المحاصصة البغيضة وقواعد الترفيع والترقيع النخبوي السقيمة.
حالة التحالفات الأردنية اليوم، إذا نظرنا لها بطريقة واقعية، نقول إنها نتجت عن التمسك الشديد بإدارة وطواقم التكنوقراط على حساب السياسيين ومراكز الخبرة المخضرمة والزعامات الوطنية التي استهدفت مرارا وتكرارا في العشيرة والقبيلة وخريطة النخبة وحتى في الأحزاب السياسية والإدارة وطبقة البيروقراط الوطني المخلص.
التكنوقراط مهم ويمرر مساحات إدارية لكنه لا يستطيع صناعة سياسة وتأسيس اتجاهات تتموضع ضمن مساحة المصالح العليا ولا يستطيع حشد الشعب حول الدولة والنظام، وينبغي اليوم تحديدا ولو مؤقتا أن يتوارى خلف الأنظار ويعمل خلف الستارة، أو في ظل الرموز السياسية، بدلا من الاسترسال في الجلوس بمنطقة الورم السياسي، التي يشغل مقاعدها اليوم مجازفون ومراهقون منتشرون بكل مكان على حساب الطبقة السياسية، وفي ظل ما يصفه الدكتور وليد عبد الحي بـ «أنيميا اقتصادية».

٭ إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»

الأردن: ورم سياسي وأنيميا اقتصادية

بسام البدارين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جليل خليفه/الاردن:

    نعم صديقي ، البيوت الجميله لها حديقه خلفيه واماميه والحكم الرشيد يحافظ علي تنميه وتطوير حديقته الخلفيه مثلما يحافظ علي الاماميه.
    والشخص الناجح يكون عنده عده خيارات والدول كذلك،
    مودتي

  2. يقول محمد عوض الطعامنه الأردن:

    جاء الوقت وحان لأن يعتمد الأردن والأردنيون على أنفسهم وهم يشهدون في كل يوم من يتعمد التخلي عنهم ! وليس أفضل من فضيلة من يأكل ما تزرعه يداه ويلبس ما تصنعه .جاء الوقت وحان للدولة أن تسن قوانين تحمي وتفرض استعمال المنتوج الوطني مقابل أن تمنع أو تحارب الكثير من منتجات الغير من جهة ومن جهة أخرى وتحت طائلة الضرورة تقر مشروعاً وطنياً للتقشف .
    سامح الله من يمكن أن يسبني إذا قراء هذا التعليق !ولكن علينا كشعب نُغني للوطن ونتظاهر في الساحات العامة مناصرين قضاياه ، علينا أن نتذكر أن الوطنية تضحية وانتماء ، كفاناً بذخاً وفشخرة وظهور !وحسبنا أن نتفهم أن وطننا بلد فقير أعتمد في كثير من حاجاته الضرورية على المساعدات الأجنبيه ، تحت طائلة الصبر والتشظي بما يحصل وحصل لنا من المانحين .كان آخرها مصادرة أغلى ما نمتلك من مقدسات كانت وستبقى محجاتنا ومصادر ايمانناً ومعتقداتنا .
    يجب أن نتغير ونغير طرائق عيشنا واساليب استهلاكنا وننكب على فلاحة ارضنا وزرعها وتنشيط صناعاتنا وتدريب كل هذا القطاع المتعطل من شبابنا ليعتمدوا الى انفسهم وتسريح أو تسفير كل عامل وافد من بلاد الدنيا في بلدنا وترك هذا الوطن كي تحرثه وتزرعه وتبنية زنود نشاماه ونشمياته .والله على كل شئ قدير .

  3. يقول سامح //الأردن:

    *خطوتان لا بد منهما لخروج
    البلد من عنق الزجاجة كما يقال.
    1 – محاربة الفساد بجميع اشكاله وصوره.
    2- الإنفتاح على محور ( تركيا -قطر- إيران ).
    حمى الله الأردن من الأشرار والفاسدين.
    سلام

  4. يقول محمد علي حسين - القاهرة:

    الاردن ليس فقيرا. الاردن غني بموارده الببشرية و هكذا هي الدول الغنية حقا.
    المشكلة هي في النفقات العسكرية العالية جدا بالمقارنة مع اي بلد في العالم حيث بلغت النفقات العسكرية في آخر ميزانية اكثر من النفقات المدنية بينما تبلغ في امريكا 3.5% و امريكا تطالب حلفائها برفع نسبة انفاقهم على الدفاع الى 2%. و للعلم فهي اقل من 1% في كندا.
    و نفقات الاردن العسكرية اكثر بكثير من مجمل المساعدات الخارجية. و الحقيقة ان هذه النفقات ضرورية لاستقرار المنطقة. و سبب عدم الاستقرار الاول هو وجود اسرائيل و ليس حدودها. ثم ما تبع ذلك من التجزئة الاجبارية للمنطقة ضد كل منطق. ثم غياب الحريات و الديموقراطية و هذا كله يسبب نمو الحركات المتطرفة التي اكتسبت لقب الارهابية مع ان الارهاب الاكبر هو ارهاب اسرائيل و امريكا و الدول الاستعمارية السابقة و الحالية.
    لا يمكن للاردن حل جميع مشاكل المنطقة و لكن المزيد من الحرية و الديموقراطية و اللامركزية سيمكن من استقرار الدولة و تخفيض نفقاتها العسكرية

  5. يقول Saad:

    أعجبني تعليق السيد الطعامنه بما فيه وجوب التعامل مع الواقع والتنازل عن الكثير من العادات والممارسات التي أقحمت فيه عنوه وهي بعيده عن عادات وتقاليد الشعب الأردني . لكن الأهم من ذلك وحيث أن الظرف يطلب من كافه الأردنيين أن يعو الواقع والمشكله ليأتي الحل سليما وعلى أرض صلبه ، يجب تعريف من هو الأردني المطلوب منه المشاركه وتحمل عبأ الحل . ما لم يتم حسم ذلك مهما كان الحل سيأتي ناقصا وضعيفا .

  6. يقول د. ابراهيم الحراحشة:

    صبر وتضحيات لمين اذا كان الشعب الاردني مهمش ودورة صفر في صناعة القرار في بلادة. كيف لنا ان نقول ان هذه التضحيات تجعلنا نلج الى نهاية النفق الذي اوجدنا فيه ولم يكن لنا حول ولا قوة ولم يزل كذلك. والى متى؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟

  7. يقول عيسى القلاب الاردن:

    مشكلة الاردن بمن تسميهم النخبه لقد آن الاوان ان يلتقي جميع الاردنيين من شتى الاصول والمنابت لطرح منتج سياسي اجتماعي في ظل دوله مدنيه يغيب عنها بعض النخبه الذين اوصلو البلد الى هذا المنحنى الضيق فالاردن ليس فقير لكن الاردن يفقر بفعل غياب المساواه وشفافية الاداره

إشترك في قائمتنا البريدية